"الواقع الرقمي" .. بين الفوضى والتنظيم والحرية
فيصل تايه
26-10-2025 09:05 AM
في لقاء متلفز على قناة المملكة ، أكد الدكتور زيد النوايسة، أمين عام وزارة الاتصال الحكومي، أن الواقع الرقمي اليوم يعكس فوضى واضحة، حيث امتلأت الساحة الرقمية بأعداد كبيرة ممن يطلقون على أنفسهم "صُناع محتوى" أو "مؤثرين"، يقدمون مواد سطحية بلا هدف، وبلا رسالة، غايتهم الوحيدة حصد أكبر عدد ممكن من المشاهدات والمتابعين ، وهذه ليست مجرد حالة من التسلية أو مضيعة للوقت، بل ظاهرة تهدد وعي المجتمع وتشوه مفهوم الإعلام الرقمي كأداة للمعرفة والخدمة العامة.
إن هذا الاختلال العميق يطل برأسه في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية بوتيرة غير مسبوقة، حتى أصبح الإعلام الرقمي جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية ، فما نراه ونتابعه على منصات التواصل الاجتماعي لم يعد مجرد وسيلة للتواصل، بل تحول إلى ساحة لتشكيل الرأي العام وصناعة المعرفة وتوجيه الفكر ، وهنا أقف لأقولها بوضوح : كل منشور له أثر، وكل كلمة تكتب لها ثمن ، ومسؤولية الدولة كبيرة في تنظيم هذا المشهد، ولكن مسؤولية الجمهور لا تقل عنها أهمية، فالمجتمع بحاجة إلى وعيٍ نقدي ناضج يميز بين ما يبنى عليه وما يهدم به، وبين ما يخدم الناس وما يسيء إليهم. وصُناع المحتوى بدورهم مطالبون بأن يتحولوا من مجرد مستهلكين إلى منتجين واعين يحملون رسالة واضحة، ويعملون وفق معايير مهنية تحترم عقول الناس ، فلا يمكن أن نقبل أن يستمر هذا العبث الرقمي بلا رادع أو وعي أو مسؤولية.
ومن هذا المنطلق، عملت وزارة الاتصال الحكومي من خلال هيئة الإعلام "كما أشار الدكتور النوايسة" على تطوير نظام للإعلام الرقمي يعيد التوازن للمشهد ويتيح لصناع المحتوى الحقيقيين إنتاج مادة موثوقة وهادفة ، ليس الهدف منه "رقابي" بالمعنى التقليدي، بل تمكين وتطوير وتنظيم يضمن حرية التعبير ويحمي المهنة من الفوضى ، فهذه ليست رفاهية كما قد يظن البعض، بل ضرورة وطنية تفرضها المرحلة ، وكل من يحمل الكاميرا عليه أن يدرك أن رسالته أهم من عدد المشاهدات، وأن أثره أبقى من لحظة التصفيق العابر.
لقد تحركت الحكومة أيضاً بخطوات تشريعية واضحة لترسيخ هذا الوعي، من خلال قانون ضمان حق الحصول على المعلومة، الذي يعد من بين الأميز عالمياً، إذ يوفر ما يقارب ٩٨% من المعلومات الرسمية التي يحتاجها الباحثون والإعلاميون وصناع المحتوى خلال فترة زمنية قصيرة، مما يسهم في الحد من انتشار الأخبار غير الموثوقة ويخلق بيئة حقيقية لإنتاج محتوى هادف ومؤثر ، وهكذا يضيق الخناق على الاجتهادات العشوائية ويرسم إطار منظم للمسؤولية ، وفي السياق نفسه، يضع قانون الجرائم الإلكترونية رقم (١٧) لسنة ٢٠٢٣ حدوداً واضحة لكل من يعبث بالحقائق أو ينشر بيانات كاذبة تهدد الأمن والسلم المجتمعي ، فالفضاء الرقمي يجب أن يكون مسؤولاً ومحصناً ، لا ساحة للضوضاء والعبث، ومن يظن أن الفضاء الرقمي لعب، فهو مخطئ تماماً، لأن الكلمة اليوم تملك قوة تفوق الصورة، والرسالة قد تبني وعياً أو تشعل فوضى.
ولم تكتف وزارة الاتصال الحكومي بالتشريعات والتنظيم، بل مضت أبعد من ذلك لتعزيز الثقة بين الحكومة والجمهور، عبر تطوير الثقافة الإعلامية والمعلوماتية بالتعاون مع وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي والشباب، لتعليم الأجيال كيفية التعامل مع المعلومات الرقمية وتمييز المحتوى الهادف من السطحي، لأن الوعي الرقمي مسؤوليتنا جميعاً ، فالإدراك الجمعي هو خط الدفاع الأول أمام سيل المعلومات، وهو ما يصنع التوازن بين الحرية والمسؤولية في الفضاء الإلكتروني.
وبالطبع، ليس كل ما ينشر في هذا الفضاء بلا قيمة، فهناك صناع محتوى حقيقيون يقدمون مادة راقية تثري الفكر، وتعزز الثقافة، وترفع وعي المجتمع. هؤلاء هم من يستحقون الدعم والتقدير، لأنهم يملؤون الفضاء الرقمي بالضوء لا بالضجيج، وينشرون المعنى لا المظهر ، وهؤلاء هم الوجه المشرق للإعلام الرقمي، وهم من ينبغي أن يسمع صوتهم، لا صراخ الفراغ ولا سطحية التافهين ، فالكلمة الهادفة لا تحتاج إلى ضجيج كي تصل، بل إلى صدقٍ ووعيٍ وإخلاص.
ورغم كل هذه الجهود، تبقى التحديات قائمة، فالمحتوى التافه ينتشر بسرعة الضوء، والتكنولوجيا تتطور بوتيرة تتجاوز قدرة التشريعات على مواكبتها، لكن في عمق هذه التحديات تكمن الفرص الكبرى لبناء بيئة رقمية أكثر وعياً وأماناً ، ولتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص، ولتقديم محتوى مبتكر يخدم المجتمع بصدق ، فكل تحد هو فرصة، وكل فرصة تتحول إلى قوة إذا أحسنا استثمارها، لأن المستقبل لا يصنعه من يصرخ أكثر ، بل من يفكر أعمق.
انا اقول إن الإعلام الرقمي في الأردن ليس رفاهية ولا خياراً ، بل مسؤولية جماعية تتطلب وعياً وموقفاً ، وصانع المحتوى الحقيقي هو من يحمل رسالة صادقة تؤثر بوعي ، لا من يطرب العيون بالضجيج أو يلهث وراء الأرقام ، فإن لم يكن هدفك هادفاً ، فأنت جزء من المشكلة لا من الحل ، لكن ما بين التشريعات، والتعاون بين المؤسسات، وتعزيز الثقافة الإعلامية، تشكل الركائز التي يقوم عليها إعلام رقمي أردني ناضج ومسؤول ، يبني الثقة ويجعل من الصوت الرقمي رسالة لا فوضى ، فالفضاء الرقمي قادر أن يكون منارة للوعي والثقافة، لا ساحة للتفاهة والعبث.
ولنتذكر دائماً أن كل كلمة ننشرها لها ثمن، وكل رسالة نشاركها يجب أن تترك أثراً ، لأن الكلمة إذا خرجت بصدق، أصبحت مسؤولية أمام الله والناس، وبها يبنى وعي المجتمع أو يهدم.
والله ولي التوفيق.