الهيئات القضائية الموسعة بين الحجّية والعدالة
د.اكرم مساعدة
26-10-2025 09:54 AM
"من المسلّم به ان قضاء محكمة التمييز، هو القول الفصل في المنازعات القضائية كافةً. او كما يقولون انه خاتمة المطاف في مشوار التقاضي ." بمعنى ان محكمة التمييز، وهي اعلى هيئة قضائية مؤلفة من قضاة ذوي خبرة وتجربة كبيرة، حددت بإصدارها لحكمها وضعاً انهت فيه جدل المخاصمة. انتقالاً الى مرحلة تنفيذ ما صدر عن المحكمة.
والمفروض انه بعد ان وصلت منازعة الخصوم الى اعلى محكمة، وفصل في الخلاف بينهم أقدر القضاة واكثرهم عدداً، فإن على هؤلاء الأطراف الرضى بما ألت اليه المنازعة، لآن هذا الحكم هو عين الحقيقة وعنوانها.
والاصل ان هذا الحكم الباتّ النهائي، لا يمكن تعديله او الرجوع عنه او المجادلة في تنفيذه. ولنفرض جدلاً --وقد يحدث هذا- ان محكمة التمييز أصدرت حكماً فيه من المثالب الموضوعية او القانونية، وبحيث لحق حيف بأحد الخصوم بسبب هذا الخطأ، فهل يمكن تدارك هذا الخطأ؟؟
المشرّع الأردني سمح لمحكمة التمييز إعادة النظر في قرار أصدرته، إذا ردّت الطعن التمييزي لسبب شكلي على غير التطبيق القانوني السليم فقط (المادة 204) من قانون أصول المحاكمات المدنية، أي ان العيب الذي اتّسم به الحكم و أوجب إعادة النظر فيه هو عيب شكلي، وليس عيباً موضوعياً يتيح للخصوم المجادلة في البينات المقدمة وقناعات المحكمة التي توصلت اليها.
ويثور التساؤل، ماذا لو اكتشفت المحكمة ان احكامها استقرت او صدر أحدها او بعضها على خلاف ظروف استجدت، تشريعية او موضوعية، ولا تلبّي قناعتها الوجدانية ولا تفي بمتطلبات العدالة؟؟ المشرّع هنا حسم هذه المسألة بنص المادة 205 من قانون أصول المحاكمات المدنية، الذي اعطى الحق للمحكمة ان تنعقد على شكل هيئة عامة مؤلفة من رئيس وثمانية قضاة، (المادة 9 من قانون تشكيل المحاكم النظامية)، وهذا الانعقاد لا يكون لغاية إعادة النظر في قضية صدر فيها حكم قانوني، ذلك:
1- ان ذلك الحكم قطعي لا يقبل الطعن.
2- استقرت المراكز القانونية بصدوره.
3- حاز حجية الحكم وأصبح عنوان الحقيقة.
ويكون السبب في هذا الانعقاد، هو الرجوع عما تيممته المحكمة من احكام في قضايا سابقة، ولكي تضع نهجاً جديداً في القضية المطروحة وما يليها من قضايا بنزاعات على الشاكلة ذاتها، دون المساس او التصدي لأي احكام صدرت سابقاً.
وهذا الانعقاد يختلف تماماً عمّا تعارف عليه القضاء " الهيئات الموسعة"، ولا علاقة ولا تشابه بين الهيأتين الا في زيادة العدد عن العدد المألوف ودواعي التشكيل، وهذا يشمل محكمتي الاستئناف والبداية في تشكيلاتها الاستئنافية.
محكمة البداية تنعقد بصفتها الحقوقية من قاضِ منفرد بغض النظر عن قيمة الدعوى ونوعها،(المادة 5/أ من قانون تشكيل المحاكم النظامية)، ولكنها تنعقد من قاضيين على الأقل بصفتها الاستئنافية عند النظر في الدعاوى الحقوقية، وهذا امر منطقي اذ ان المرجع القضائي الاستئنافي يجب ان يكون اكثر عدداً من المرجع الابتدائي. وهذا النص يعطي الحق لرئيس محكمة البداية بتشكيل هيئة استئنافية تزيد على قاضيين، وبالعدد الذي يراه مناسباً للنظر في المنازعة المعروضة، ولكن اعمال هذا النص مشروط بـ:
عدم التعرض لأحكام سابقة صدرت عن المحكمة بصفتها الاستئنافية، سواء صدرت بالعدد الأصلي (قاضيين) او هيئة موسعة (ما زاد على ذلك)، لان تلك الاحكام تكون اكتسبت الدرجة القطعية، اما لأنها تحصنت بمرور الزمن ولم تعرض على محكمة التمييز، او انها عُرضت على محكمة التمييز بعد صدور اذن بتمييزها.
والقول بغير ذلك يتصادم مع:
1- الاستقرار القضائي.
2- التعرض لحجية الاحكام.
3- عدم انتهاء الخصومة بحكم مقنع للأطراف.
وبالتالي لا يرد القول ابداً ان يتم النظر في حكم استئنافي صدر عن محكمة البداية بصفتها الأستثناية ام صدر عن محكمة الاستئناف بهيئة عادية بحجة تشكيل هيئة موسعة في الحكم الصادر عن المحكمة ذاتها مهما كانت الذريعة.
فالهيئة القضائية الموسّعة تُشكلّ من وجهة نظري ولآساب تشريعية (تغيير او تعديل القانون) او لأسباب موضوعية. وذلك لرسم خطّ قضائي جديد تطبيقاً للنص الجديد او توفيقاً لاوضاع اقتصادية واجتماعية طارئة، ولكن بشرط عدم التصدّي للأحكام التي صدرت عن هيئة سابقة من ذات المحكمة، بغض النظر عن عدد القضاة الذين اصدروا الحكم. لأنه من شأن التصدي للأحكام السابقة التي حازت الحجية القضائية محاذير مهمة، منها:
اولاً: نوع من تسليط القضاء على القضاء، بمعنى ان قضاء من نفس الدرجة نقض حكماً صدر عنه ايضاً ولم يأبه بما صدر عنه سابقاً.
ثانياً: انه لن يكون هناك حدٌ لأنهاء المنازعة الاستئنافية، مادام انه تم تشكيل هيئة موسعة لرؤية ذات الحكم الصادرعن هيئة عادية مسبقاً، فما الذي يمنع من تشكيل هيئة أوسع وهكذا ... إلخ
ثالثاُ: ان من شأن صدور حكم استئنافي يلغي حكم استئنافي سابق في نفس الدعوى ونفس الخصوم والأسباب
ما يعني خلخلة الثقة في القضاء.
أخلص مما أسلفت ان الهيئة الموسعة في محكمتي البداية والاستئناف التي أجاز القانون تشكيلها، تنعقد في النزاعات المستجدّة ولا يجوز لها النظر في قضايا أصدرت فيها احكاماً سابقة.
ويبقى الامر والتساؤل المثارعن الهيئة الموسعة في محكمة التمييز، إذ أن المنطق يقول ان الرأي يقوّى بالعدد، وان العدالة تتحقق أكثر كلّما زاد عدد القضاة الذين ينظرون في الدعوى، وأن الثقة تُقوّى بالأحكام الصادرة عن عدد اكثر من القضاة وخاصة في القضايا ذات الأهمية الكبرى سواء المدنية او الجزائية.
وهنا لا اناقش تشكيل معين لمحكمة التمييز الموقرة (الحكم رقم 64891/99 تاريخ 27/6/2000 حيث تشكلت المحكمة من ثلاثة عشر قاضياً) فقد كنت جزء من تشكيلها، واعلم وبقناعتي الكاملة الاكيدة، ان قضائنا على قدر كبير لا يضاهى من العدالة والفهم.
تعرفت على معظم الأنظمة القضائية في العالم واعرف ان قضاتنا يحملون همّاً كبيراً على عاتقهم، ولكني اتطرق متصدياً للنص القانوني:
وفقا لأحكام المادة التاسعة من قانون تشكيل المحاكم النظامية، فأن العدد الأكبر لانعقاد محكمة التمييز على شكل هيئة عامة هو – رئيس وثمانية قضاة –، وتنعقد بهذا التشكيل لأسباب معروفة تدعو لهذا الانعقاد. وسواء ما جاء في هذا النص او ما تضمنه نص المادة 205 من قانون أصول المحاكمات المدنية، فأن تعريف الهيئة العامة ورد على شكل تعريف خاصٍ، وهو رئيس وثمانية قضاة، وليس كما هو معروف ان الهيئة العامة تتألف من جميع الأعضاء كمجالس الادارة في المؤسسات والشركات.
ومع احترامي الكامل لاتجاهات القضاء الأردني، لا أرى ما يسمح بتشكيل هيئة قضائية تمييزية تزيد عن عدد الهيئة العامة، وإذا شُكّلت هذه الهيئة فأنه لا يجوز لها التصدي في أي حكم صدر في قضية سابقة الغاء او تعديلاً بأي شكل من الاشكال الا في حدود المادة 204 من قانون أصول المحاكمات المدنية.
دوّنت هذه الخاطرة توضيحاً لما يُتداول عن الهيئات الموسعة آملاً الإفادة.