تقدم الفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي
إبراهيم غرايبة
26-10-2025 10:11 AM
يختتم فينسنت كونيتزر دراسته التي أشرت إليها في مقال سابق؛ بالتأمل في موقع الفلسفة في زمنٍ باتت فيه الآلات تتعلم، وتفكر، وتتخذ قراراتٍ كانت حكرًا على الإنسان. فهل ستصبح الفلسفة، كما يخشى البعض، زائدة عن الحاجة في عالمٍ تحكمه الخوارزميات؟ أم أن دورها سيغدو أكثر مركزيةً من أي وقت مضى؟ يرى فينسنت كونيتزر أن الذكاء الاصطناعي لا يهدد الفلسفة بل يعيد إحياءها. فقد أجبرنا على طرح أسئلة أساسية حول الوعي، والمعرفة، والأخلاق، والهوية، وأعاد ربط الفلسفة بالعلم بعد قرنٍ من الانفصال. إن مستقبل الفلسفة لن يكون في برجٍ عاجيّ، بل في مختبرات الذكاء الاصطناعي ومجالس السياسات العامة، حيث سيُعاد تعريف معنى أن نكون بشرًا في عالمٍ تصنعه وتفهمه وتعيد صياغته الآلات.
يرى كونيتزر أن العلاقة بين الفلسفة والعلم كانت دائمًا تكاملية. فالفلسفة تطرح الأسئلة التي تسبق أي بحث تجريبي: ما الوعي؟ ما الحقيقة؟ ما المعرفة؟ ما الخير؟ ثم يأتي العلم ليقدّم طرائق جديدة لاختبار الإجابات الممكنة. وبهذا المعنى، لا يمكن للعلم أن يستغني عن الفلسفة، بل إن التطورات العلمية الكبرى؛ من الثورة الكوبرنيكية إلى الذكاء الاصطناعي تجبرنا دومًا على إعادة تعريف أسئلتنا الفلسفية الأولى. في الماضي، مثّل علم الأحياء تحديًا لفهمنا للإنسان ككائن متميز عن الطبيعة، أما اليوم، فإن الذكاء الاصطناعي يمثل تحديًا لفهمنا لما يجعل الإنسان متميزًا عن الآلة.
في زمن الذكاء الاصطناعي، تتحول الفلسفة إلى ما يسميه كونيتزر «مختبرًا للمفاهيم» فالنقاشات حول الوعي، والإرادة الحرة، والأخلاق، والمعرفة، لم تعد تدور فقط في القاعات الأكاديمية، بل في مختبرات البرمجة والتصميم أيضًا. كل خوارزمية جديدة هي في جوهرها فرضية فلسفية مجسدة: فرضية حول ما هو «العقل»، أو «الفهم»، أو «التعلم». وبالتالي، فإن العلماء الذين يصممون أنظمة ذكاء اصطناعي يمارسون من حيث لا يشعرون الفلسفة التطبيقية في أرفع صورها.ولذلك يجب أن يكون للفلاسفة حضور فعلي داخل فرق البحث، لا كمستشارين خارجيين، بل كجزء من الحوار البنائي الذي يوجّه قرارات التصميم واختيارات النمذجة.
ما يميز عصرنا أن بعض الأسئلة الفلسفية القديمة قد صارت اليوم قابلة للاختبار تجريبيًا. فعلى سبيل المثال، حين نتساءل: «هل تستطيع الآلة أن تفكر؟» لم يعد الجواب افتراضيًا، بل أصبح موضوعًا للبحث العلمي والفحض المخبري. وحين نسأل: "هل يمكن للآلة أن تتصرّف أخلاقيًا؟"، يمكننا تحليل خوارزميات القرار ومقارنة نتائجها بأنماط الحكم الأخلاقي البشري في مواقف محددة. وهكذا، فإن الفلسفة لم تعد تكتفي بطرح الأسئلة، بل أصبحت تتجسّد في النماذج والأنظمة. وما كان يومًا نقاشًا ميتافيزيقيًا حول العقل والإرادة، تحوّل الآن إلى مشروعٍ علمي تجريبي يختبر تلك المفاهيم على أرض الواقع.
في خضمّ الحماس العلمي، يحذّر كونيتزر من أن الفلسفة يجب ألا تفقد وظيفتها الأصلية: أن تكون ضمير الحضارة التقنية. فالتاريخ يعلمنا أن التقدم التكنولوجي بلا تأملٍ أخلاقي قد يقود إلى نتائج كارثية كما حدث في سباق التسلح النووي أو الصناعات البيولوجية. والذكاء الاصطناعي لا يختلف في ذلك، بل ربما يحمل مخاطر أعظم، لأنه يتسلّل إلى نُظم القرار والسلطة والمعنى ذاتها. من هنا، فإن دور الفلاسفة هو أن يحرسوا حدود السؤال الإنساني، وأن يذكّروا بأن وراء كل كودٍ خوارزمي توجد فرضية حول الإنسان والعالم. وكلما ازدادت قوة الذكاء الاصطناعي، ازدادت الحاجة إلى صوتٍ نقديٍّ يسائل: من يقرّر؟ ولأي غاية؟ وبأي ثمن؟
قد لا تملك الفلسفة القدرة على إبطاء زحف الذكاء الاصطناعي، لكنها تملك ما هو أهم: القدرة على توجيهه نحو الإنسان. فحين نتأمل ما يعنيه «الذكاء» و«القيمة» و«المعنى»، نُدرك أن هذه المفاهيم ليست ملكًا للعلم، بل هي جوهر التجربة الإنسانية نفسها.
يقول كونيتزر في خاتمة مقاله: "إذا كان علينا أن نعيش في عالمٍ تتعلّم فيه الآلات التفكير، فيجب علينا نحن أن نتعلّم التفلسف من جديد." إن الفلسفة في مواجهة الذكاء الاصطناعي ليست خصمًا له، بل هي شريك ضروري لبقائنا الإنساني في عصرٍ تتحوّل فيه المعرفة إلى بيانات، والقرارات إلى خوارزميات، والعقل إلى شبكة.