في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الرقمية كما تتسارع دقات المستقبل، لم تعد الإدارة العامة جهازًا بيروقراطيًا تقليديًا يؤدي خدمات روتينية، بل أصبحت أحد أهم المحركات التي تصوغ ملامح الغد وتحدد شكل الدولة الحديثة. هذا المعنى تجلّى بوضوح في الملتقى العربي الثاني للإدارة العامة، الذي انطلق اليوم تحت عنوان «الإدارة العامة في عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي»، حين صعد سعادة الدكتور علي بن سباع المري إلى المنصة ليلقي خطابًا لم يكن احتفاليًا تقليديًا، بل أقرب إلى إعلان بداية مرحلة جديدة في التفكير الإداري العربي.
كلمته كانت محمّلة برسائل عميقة تلامس جوهر العمل الحكومي في زمن الثورة التقنية. تحدّث عن التقدم التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم، وما يرافقه من تحولات جذرية في طريقة إدارة الحكومات لمهامها، مشيرًا إلى أن الأرقام لم تعد مجرد مؤشرات جامدة توضع في تقارير سنوية، بل تحولت إلى بوصلة حقيقية ترشد صانع القرار وتعيد رسم ملامح الهياكل المؤسسية. التحول الرقمي لم يعد مجرد اعتماد أدوات وتقنيات جديدة، بل أصبح فعلًا إعادة صياغة شاملة لمنظومة الإدارة العامة، من طريقة تصميم السياسات العامة، إلى كيفية تقديم الخدمات، وصولًا إلى طريقة إدارة القرار نفسه. في هذه المرحلة، لم يعد كافيًا أن تكون القيادة الحكومية تقليدية، بل أصبح المطلوب قيادة رشيقة، مبتكرة، قادرة على التجريب السريع واحتضان التغيير بثقة ووعي.
في لحظة لافتة من خطابه، توقّف الدكتور علي عند عبارة بسيطة في ظاهرها، عميقة في معناها: «جودة السؤال تحدد جودة الفهم». كانت هذه الجملة أشبه بمفتاحٍ يفتح أبوابًا جديدة للتفكير الاستباقي. فالسؤال الذكي ليس مجرد تمرين ذهني، بل أداة استراتيجية لاكتشاف ما لا يُرى وسط زحمة التحول. ومن هذه النقطة تحديدًا، انطلقت تساؤلات وجودية تتعلق بمستقبل الإدارة الحكومية: هل ستبقى الحكومات على صورتها الحالية كما نعرفها اليوم؟ هل سنرى الروبوتات يومًا كزملاء عمل يتقاسمون المهام مع الموظفين الحكوميين؟ هل ستتغير الهياكل المؤسسية التي ترسخت لعقود طويلة؟ هل نحن مستعدون لوضع إطار أخلاقي متكامل للذكاء الاصطناعي؟ ومن سيتحمل المسؤولية عندما يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من صناعة القرار؟
هذه الأسئلة ليست رفاهية فكرية، بل هي أسس صلبة تُبنى عليها ملامح المستقبل الإداري. الحكومات التي ستنجح في عبور هذه المرحلة ليست تلك التي تتعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه مجرد أداة مساندة، بل تلك التي تعتبره شريكًا استراتيجيًا يعيد تعريف العملية الإدارية من جذورها. إدارة حكومية ذكية ليست هيكلًا جديدًا فحسب، بل عقلية جديدة تنظر إلى البيانات باعتبارها لغة القرار، وإلى السرعة والدقة كمعيارين للريادة، وإلى الأخلاقيات كضمانة توازن بين طموح التقنية وكرامة الإنسان.
قد لا تكون هناك إجابات نهائية بعد، لكن مجرد طرح هذه الأسئلة في فضاء الإدارة العامة العربية يشكل قفزة نوعية في الوعي الحكومي. فالمستقبل لن يكون نسخة محسّنة من الحاضر، بل إعادة صياغة كاملة لدور الدولة، وحدود المسؤولية، وطبيعة العمل المؤسسي. الطريق نحو إدارة حكومية ذكية لا يبدأ من مختبرات التقنية ولا من أروقة الشركات الناشئة، بل من مختبرات التفكير الجاد، ومن الجرأة على مساءلة المسلمات التي بدت يومًا غير قابلة للنقاش. ففي عالم لا ينتظر المتأخرين، لا تكون الإجابة التقليدية هي ما يصنع الفرق، بل السؤال الجريء الذي يفتح أفقًا جديدًا.
*د. صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية