تسوية الأراضي في "الضفة الغربية" .. الحقوق أمام تحدٍ تاريخي
فيصل تايه
29-10-2025 10:11 AM
الضفة الغربية ليست مجرد رقعة على خريطة، بل ذاكرة شعب وهوية أجيال ، وما يجري اليوم من تلاعبات في عملية تسوية الأراضي يفصل بين الحق والباطل بخط رفيع يهدد وجوداً كاملاً ، فمن المعلوم أن هذه الأراضي، وقبل عام ١٩٦٧ ، كانت تحت الإدارة الأردنية وسجلت بموجب القوانين الأردنية ، وكان أصحابها مواطنين أردنيين يتمتعون بحقوق قانونية واضحة في التملك والإرث ، حيث هذا الواقع التاريخي لم يمح ، لكن ما بعد قرار فك الارتباط وتحولات السنوات جعل أصحاب الحقوق يواجهون فراغاً قانونياً استغل بأسوأ الطرق.
إن الأرض ليست مجرد حدود ترسم على الخرائط، إنها وصية الأجداد للأبناء، وضياعها ضياع للهوية والكرامة معاً ، فحين ينتزع حق الوريث من أرضه، لا تسلب منه "الدونمات" فحسب، بل يسلب منه تاريخه وحق أولاده في البقاء ، من يفرط في الأرض اليوم، يكتب على الأجيال القادمة عقد اغتراب لا ينتهي.
ان الفراغ الذي خلفته سنوات الاحتلال ليس مجرد ثغرة إدارية، بل ساحة خصبة لمن يستغلون ضبابية السجلات والتعقيدات المرجعية بين الأردنية والإسرائيلية والفلسطينية ، ففي هذا المناخ تبرز ظاهرة تسجيلات "أحادية" واستغلال غياب الورثة أو ضعف المتابعة، ليتم تمرير معاملات تسند الأراضي إلى أطراف لم يثبت حقها، فتتحول الحقوق قبل ١٩٦٧ إلى حبر على ورق ، وفي المقابل ، تتزايد الإجراءات الاحتلالية بشأن تسجيل الأراضي وتضييق الحضور الفلسطيني في مناطق حساسة، لتتحول الأرض إلى ميدان متغير للاختلال السياسي والإداري.
اليوم ، وحين يشعر الناس أن العدالة غابت وأن الورقة تغلب الحق، تتآكل الثقة بالمؤسسات ويضعف الانتماء، وهذا خطر على البنية الوطنية بأكملها ، فبعض أقرباء الورثة أو أطراف طامعة، وأحياناً بمساعدة محامين ووسطاء بلا ضمير ، يحولون هذه الفوضى إلى مكاسب شخصية عبر تزوير الوثائق أو تسجيلات مزعومة، بينما بعض إجراءات التسوية الحالية في الضفة الغربية تنفذ دون استدعاء كل الورثة أو ضمان حقهم في الطعن ، وبينما تتكشف هذه التجاوزات القانونية، فإن تأثيرها يمتد بعيداً ليصل إلى النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية، مما يفرض على الجميع دوراً في حماية الحقوق ومحاسبة المتلاعبين.
إن ما يجري ليس نزاع ملكية فحسب، بل طمس للهوية وإفقار للذاكرة الجماعية، فعندما تسلب الأرض عبر إجراءات تدار في الظلام أو بمبررات قانونية هزيلة، نفقد الضمان الاجتماعي وأمان الأجيال القادمة ، لذا يجب أن تكون الخطوات حازمة وواضحة، وألا تترك ثغرات يستغلها المتنفذون لنهب حقوق الضعفاء ، فالمجتمع المدني والإعلام والهيئات الحقوقية ملزمون بكشف الحقائق والضغط من أجل محاسبة الفاسدين، حتى لا تتحول التسوية إلى غطاء لسطو ممنهج على التركة الوطنية.
إن المسؤولية اليوم لم تعد خياراً إدارياً، بل "واجب وطني" وأمانة قانونية، فكل جهة تمتلك وثيقة أو صلاحية في هذا الملف تتحمل وزر التقصير أمام الله والتاريخ، وان السكوت مشاركة في جريمة نزع هوية الوطن من جذوره، فلا وقت للتسامح أو الخطوات الجزئية، والمطلوب إجراءات عملية وقانونية صارمة توقف العبث بحقوق الناس، أولها إعلان وقف مؤقت لأي تسجيلات نهائية أو نقل ملكية في الحالات المشكوك فيها، لحين فتح تحقيق مستقل وشفاف، كما يجب تشكيل لجنة تحقيق قضائية وإدارية مشتركة تضم ممثلين عن السلطة الفلسطينية، والاستئناس برأي دائرة الأراضي الأردنية، وقضائيين مستقلين، ومراقبين دوليين أو حقوقيين موثوقين، للتحقيق في شبكات التلاعب والتواطؤ.
كما وينبغي سن عقوبات رادعة تشمل الإحالة الجنائية وسحب التراخيص المهنية من المحامين أو الوسطاء المتورطين، وربط الأرشيف الأردني القديم بسجلات السلطة الفلسطينية لتأسيس قاعدة بيانات موثقة تتيح للورثة في الداخل والخارج التحقق من ملفاتهم والحصول على نسخ مصدقة، مع إلزامية إشعار جميع الورثة رسمياً قبل أي إجراء تسوية، وتفعيل آلية طعن عادلة محكومة بمهل زمنية واضحة.
هذه الإجراءات ليست انتقامية، بل إطار للعدالة وحماية المجتمع من تفكك النسيج الاجتماعي، لذلك فعلى السلطة الوطنية أن تكون حارسة للحقوق لا مجرد مسجل إداري، وأن تحول كل ملف مشبوه إلى تحقيق قضائي سريع وشفاف، كذلك على الأردن أن يشارك فعلياً في استرجاع وتوثيق سجلات "الطابو" القديمة، لأن هذه السجلات تثبت أن أصحاب الأراضي كانوا وما زالوا مواطنين أردنيين لهم حقوق لا يجوز المساس بها.
وهنا لا بد من التأكيد أن آلاف الأردنيين من أصل فلسطيني، الذين يحملون الجنسية الأردنية والرقم الوطني ، هم ورثة شرعيون لحقوق ثابتة ومسجلة قبل عام ١٩٦٧ ، وأن هذه الحقوق لا تسقط بالتقادم، فمن واجب الدولة الأردنية والسلطة الفلسطينية أن تضمن لهم حقهم في المطالبة بميراثهم وأراضيهم، وأن تحميهم من أي تلاعب يمارس باسم الغياب أو الانفصال الإداري، فالأرض التي ورثوها ليست مجرد ملك خاص، بل شاهد على وحدة التاريخ والدم والمصير.
إلى جانب إجراءات الضبط، يجب إنشاء برنامج دعم قانوني واسع يضم مراكز استشارات مجانية، وفرق مساندة للورثة في الخارج، وخطاً ساخناً لتلقي شكاوى التلاعب والتزوير، مع متابعة ملفات الطعن حتى إصدار الأحكام النهائية، كما ويجب نشر قوائم بأسماء المحامين والوسطاء المتورطين لخلق رادع مهني واجتماعي حقيقي، لأن الشفافية هنا ليست خياراً بل عقيدة لحفظ الحقوق.
بقي ان اقول ، ان هذه ليست قضية ورثة وأوراق، بل قضية وطن ومستقبل، فكل حجر يسلب، وكل دونم يزور، هو طعنة في ذاكرة شعب بأكمله، ولن يسامح التاريخ من وقف متفرجاً، ولن تغفر للأجيال القادمة لحظة التهاون، فقد آن الأوان لقرار وطني شجاع يعيد الحق لأصحابه ويضع حداً لعبث تجاوز كل الخطوط.
وإذا كانت هناك رسالة أخيرة فهي أن الأرض ليست ملكية قابلة للتلاعب، بل صلة أجيال وكرامة دولة، وحماية الحقوق تتطلب إرادة حقيقية من السلطة الوطنية، تعاوناً وثيقاً مع الأردن، وتطبيقاً صارماً للقانون على كل من يعبث بميراث الناس، وإلا فإن ثمن الصمت سيكون فقدان الأرض والعدالة معاً.
قال أحد القضاة العرب: "العدالة التي تتأخر يوماً، تفتح باباً للظلم عاماً" فكيف بعد نصف قرن من الانتظار؟ أليس آن أن يعود الحق إلى أصحابه؟
فلتكن هذه اللحظة بداية تصحيح المسار، لأن الأرض إن ذهبت، لن تعود إلا بإرادة ودم وجهد صادق.
والله بالغ أمره.