النزعة التدميرية مؤذية للضحية والجلاد
ابراهيم غرايبة
29-10-2025 12:21 PM
"الدافع وراء الفكرة لا يجعلها صوابا او خطأ. وتحليل الدوافع ليس حجة على الصواب او الخطأ". أريك فروم
يوضح عالم النفس إريك فروم (1900 – 1980) في كتابه هذه طبيعة العاطفة "النكروفيلية" التدميرية، والظروف الاجتماعية التي من شأنها أن تغذيها، وستكون النتيجة كما يقول أن المساعدة في مواجهة هذه الأزمة لا يمكن أن يتأتي إلا من خلال التغيرات الحذرية في بنيتنا الاجتماعية و السياسية التي ستعيد الإنسان إلى دوره الأسمى في المجتمع، وليس استدعاء "القانون والنظام" ومعاقبة المجرمين، وما يصيب الثوريين من استحواذ فكرة العنف والتدمير يؤشر إلى الجاذبية القوية للنكروفيا في العالم المعاصر.
إن فهم النزعة التدميرية لدى الإنسان يمكن أن يفيد في فهم العنف والتطرف والإرهاب، ويضع الظاهرة في سياق سيكولوجي؛ إذ نحتاج كما يقول فروم إلى أن ننشئ الشروط التي تجعل من نمو الإنسان -هذا الكائن الذي لم يبلغ تمامه واكتماله الفريد في الطبيعة- الهدف الاعلى الكل التدابير الاجتماعية، فالحرية الحقيقية والاستقلال وإنهاء كل أشكال السيطرة الاستغلالية هي الشروط اللازمة لتحريك محبة الحياة؛ التي هي القوة الوحيدة التي يمكن أن تهزم محبة الموت.
يقول ج. سي. سمتس: "عندما أنظر إلى التاريخ أكون متشائما، ولكنني عندما أنظر إلى ما قبل التاريخ أكون متفائلا" ويقصد بذلك ما يمكن أن يلحقه الإنسان المعاصر بنفسه وبالطبيعة من دمار وضرر، فالتدمير صاحب التطور الحضاري والتقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي، ما يجعل لعلم النفس مكانة مهمة في استيعاب أزمة الحضارة وترشيدها.
يراوح تفسير السلوك العدواني بين الغريزية والسلوكية؛ أي النظر إلى العدوان باعتباره عريزة إنسانية، أو سلوكا مكتسبا بفعل البيئة المحيطة، وقد نشر كونراد لورنتس Konrad Lorenz وهو باحث في السوك الحيواني كتاب "في العدوان" عام 1966، وقرر لورنتس أن السلوك العدواني للإنسان كما يتجلى في الحروب والجريمة والمشاجرات الشخصية ناتج عن غريزة فطية مبرمجة، وفي المقابل فإن سكنر يرد الظاهرة الى السلوك الإنساني. يقول فروم: يمكن ببساطة رد العدوان الدفاعي الى سلوك غريزي. لكن هناك نوع خبيث من العدوان أي القسوة والتدميرية، وهو نوع خاص بالبشر وغائب إجمالا عند معظم الحيوانات.
يبحث فروم في أسس التحليل النفسي للسلوك الإنساني العدواني، والدوافع المنشئة لهذا السلوك، وقد تكون هذه الدوافع شعورية، لكنها في أغلب الأحيان لا شعورية، هي في معظم الوقت متحدة مع بنية طبع مستقرة نسبيا. وحسب فرويد فإن الحياة تحكمها عاطفتان، هما الحب والتدمير، وبذلك أعطى التدميرية البشرية صفة عاطفة إنسانية أساسية.
إن عواطف الإنسان هي محاولة الإنسان أن يجعل للحياة معنى، وأن يخبر أقصى ما يستطيع أو يظن أنه يستطيع أن يحقق من الشدة والقوة في الظروف المعطاة. والحقيقة أن كل العواطف البشرية الخيرة والشريرة على السواء لا يمكن أن تفهم إلا بأنها محاولة شخص لجعل معنى لحياته. وفي لحاق الإنسان بعواطفه ينشئ الخير والشر والجمال والقبح، فالناس ينتحرون لإخفاقهم في تحقيق عواطفهم المتعلقة بالحب والشهرة والانتقام، ولا ينتحرون بسبب الحرمان الجنسي.
لكن ذلك لا يعني أن التدميرية والقسوة ليستا مرذولتين، بل هما مدمرتان للحياة، للجسم والروح، ومدمرتان لا للضحية وحدها بل لمن يقوم بالتدمير أيضا، إنهما تعبران عن انقلاب الحياة ضد ذاتها في المجاهدة لجعل معنى لها.
عبر ف. ت. مارتيني في عام 1909 عن روح النكروفيليا في عمله الأدبي "البيان المستقبلي" حيث يمكن أن يفتتن الإنسان بكل ما هو مضمحل، وغير حي، وتدميري، وميكانيكي، ومثال ذلك شعار "يحيا الموت" الذي كان يطلقه حزب الكتائب الإسباني الفاشي والذي تأسس عام 1934، إن ذلك يهدد بأن يصبح ا لمبدأ السري لمجتمع يشكل فيه قهر الطبيعة بالآلة المعنى الصميميّ للتقدم، حيث يصح الشخص الحي ملحقا بالآلة.
لقد كان فهم الطبيعة الإنسانية شاغلا للفلاسفة والمفكرين منذ أقدم العصور، أي ما الذي يجعل الإنسان إنسانا، وهكذا عرف الإنسان بأنه كائن عاقل، أو حيوان اجتماعي، أو يستطيع أن يصنع الأدوات، أو يصنع الرموز. ويوحي تاريخ البشرية أن إنسان العصر الحديث مختلف كثيرا عن إنسان الأزمنة السابقة، وتظهر الدراسات الانثروبولوجية للشعوب تنوعا في العادات التقاليد والقيم والأحاسيس والأفكار إلى حد أن كثيرا من الانثروبولوجيين قد وصلوا إلى المفهوم الذي مفاده أن الإنسان يولد صحيفة بيضاء تكتب عليها كل ثقافة نصها. ومما يشجع أيضا على إنكار الطبيعة الإنسانية الثابتة كيف كان الإنسان يعقل العبودية لدرجة أن فيلسوفا عظيما مثل أرسطو ومثله معظم المفكرين والعلماء حتى القرن الثامن عشر دافعوا عنها، وعلى العموم –يقول فروم- يشير المرء بارتياب إلى "الطبيعة الإنسانية" في قبول حتمية سلوك بشري كالجشع والقتل والغش والكذب، والحسد والكراهية.
تشريح التدميرية البشرية. تأليف أريك فروم. ترجمة محمود منقذ الهاشمي، دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، 2016