العرب المسيحيّون: جذور أصيلة وشركاء في صُنع الحضارة
عيسى حداد
29-10-2025 02:50 PM
لطالما كان دور العرب المسيحيين حَجْرَ زاويةٍ في تكوين الحضارة العربية منذ ما قبل الإسلام. فقد شكّلت مجالسهم منتديات فكرية حيّة، تلتقي فيها شُعَب العلم والفلسفة واللاهوت في تناغم مبدع. وتشهد الأرض الأردنية، بكنائسها وآثارها المنتشرة في كل ربوعها، على عمق هذا الإرث، حيث احتضنت المسيحية منذ فجرها، لتنبُتَ في تربتها وتزدهر، ثم لتمتد منها جذورها لتشمل كل بلاد الشام وجنوب الجزيرة العربية، حتى وصلت إلى مملكتي سبأ وحمير، حاملةً معها بذور الثقافة والمعرفة إلى بقاع الأرض.
وقد تميّز الحضور التاريخي للعرب المسيحيين بأدوار محورية في نهضتين رئيسيتين: الأولى في عصور ما قبل الإسلام، والثانية في القرن التاسع عشر. ففي النهضة الحديثة، برزوا روّاداً لحركة الترجمة التي أنعشت الفكر العربي، وأسسوا المطابع وأصدروا المجلات الثقافية، وساهموا في وضع المعاجم التي نظّمت اللغة، كما كان لهم السبق في التشديد على أهمية تعليم المرأة، مؤمنين بأن نهوض الأمم يبدأ من إعلاء شأن العلم. ولم يقتصر إسهامهم على ذلك، بل كانوا جسراً لنقل الفلسفة اليونانية وعلومها، وساهموا بشكلٍ بارزٍ في تطوير "علم الكلام" الذي قدّم الإيمان في صورة عقلانية تستند إلى المنطق والحجّة.
وتشهد على ذلك المخطوطات التاريخية، مثل مخطوطة سيناء إحدى أقدم الوثائق العربية المسيحية، التي تحكي هذه القصة بلغة بليغة. كُتبت هذه المخطوطة بالخط الكوفي وبأسلوب أدبي يحاكي الأسلوب القرآني في سجعه ومصطلحاته، بل ويشترك معه في العديد من العبارات. وهذا التشابه ليس محض صدفة، بل هو دليل مادي على حوارٍ ثقافي وديني عميق ساد تلك الفترة، حيث شكّلت المسيحية والإسلام معاً، من خلال هذا التمازج، الجذور المتشابكة للهوية العربية المتصالحة مع تنوعها.
وانطلاقاً من هذا الإرث المشترك والهوية المتشابكة، يبرز مفهوم المواطنة كحجر أساس في بناء الدولة العادلة. حين يتناول المثقف العربي هذا المفهوم، فإن منطلقه يجب أن يكون الانتماء القومي والهوية الجامعة، لا الانتماء الديني. فالدين، في جوهره، تجربة إيمانية شخصية وعلاقة فردية بين الإنسان وربه، ولا يجوز أن تتحول إلى معيار للولاء الوطني أو سبب للتمييز بين المواطنين. الدولة المدنية هي الإطار الأمثل لضمان هذه الحرية، حيث تحمي حرية الاعتقاد وتحترم الشعائر، دون أن تتحول إلى دولة دينية تُفرّق بين مواطنيها على أساس العقيدة، وتجعل الولاء للوحي بدلاً من الوطن.
وهذا المبدأ ليس وليد اليوم، فلطالما عرف التاريخ العربي تنوعاً دينياً كان مصدر ثراء وقوة. فالعرب المسيحيون، من غساسنة ومناذرة وتغالبة، لم يكونوا عرباً لأنهم اعتنقوا المسيحية، بل لأنهم أبناء هذه الأرض، شاركوا لغتها وثقافتها ومصيرها. والأمر نفسه ينطبق على غالبية مسلمي بلاد الشام والذين يشتركون بنفس الأصول. كما أن السريان، الذين يتشاركون مع العرب في الجذر الآرامي العريق، هم لبنة أصيلة في النسيج الحضاري للمنطقة.
وخير دليل على ذلك أن التجربة التاريخية قد أثبتت أن الدول التي قامت على أسس دينية صرفة، سواء أكانت مسيحية أم إسلامية أم يهودية، فشلت في تحقيق الاستقرار الدائم والعدالة الشاملة. فحين يُمنح دينٌ ما امتيازاً أعلى من غيره، تختل موازين المساواة، وينحسر مفهوم الوطن ليكون حكراً على طائفة، ويُختزل المواطن في هويته المذهبية الضيقة. هذه الصيغة، حتى وإن بدت ممكنة في حقبة زمنية معينة، فإنها محكوم عليها بالزوال لأنها تقوم على الإقصاء والتفريق باسم الإيمان الذي من المفترض أن يجمع.
لذلك، فإن صون التنوع الديني في المشرق لا يتحقق بالشعارات، بل ببناء دولةٍ تحمي مواطنيها جميعاً، وتربط الولاء بالأرض لا بالعقيدة. من هنا، فإن الحاجة ملحّة لترسيخ مفهوم جديد للمواطنة، يقوم على مبادئ الدولة المدنية العادلة التي لا تعادي الدين، بل تحترم جميع الأديان وتصون حرية الضمير، دون أن تسمح لأي منها بالهيمنة على مؤسسات الدولة وتحويل المعتقد إلى سلاح سياسي. الدولة المدنية بهذا المفهوم ليست إلحاداً، بل هي "سياج" يحمي الدين من الاستغلال ويحمي المجتمع من الانقسام.
وانطلاقاً من هذه الرؤية للمواطنة والدولة المدنية، فإن مساهمة العرب المسيحيين كانت ولا تزال جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من النسيج الوطني والمسار النهضوي الشامل. وهذا الإرث الحضاري لا يُعد تراثاً لفئة محددة، بل منتجاً إنسانياً مشتركاً وأحد الأعمدة الرئيسية التي قامت عليها النهضة العربية بكل أطيافها. إن الحفاظ على الوجود المسيحي المشرقي الحيوي والفاعل ليس واجباً وطنياً فحسب، بل هو ضرورة لتحقيق التوازن في تشكيل الهوية العربية، فهم شركاء في صنع الماضي، وفاعلون أساسيون في تشكيل الحاضر، وشركاء لا غنى عنهم في بناء المستقبل.
من هنا، من أردن الحضارة والمحبة، يمكن للعالم أن يتعلم نموذجاً فريداً يقوم على التمازج الروحي والثقافي، الذي يسعى بإخلاص لخدمة الإنسان أينما كان. فالشرق لا يحتاج إلى دول تُحكم باسم السماء وحدها، بل إلى دول تُقيم العدل وتصون الكرامة باسم الإنسان، كل إنسان. فالمواطنة الحقيقية لا تُقاس بعقيدة الإنسان، بل بما يبذله من عمل وجهد وولاء لوطنه، وانتماؤنا العربي الأصيل يقوم على الأرض التي تجمعنا، والثقافة التي توحدنا، والإرث الإنساني الذي نحمله معاً إلى العالم.