يقول المثل الشعبي القديم: “ما بحرث الارض إلا عجولها”، أي أن أبناء البلد هم الأَولى بعمارتها وخدمتها والعمل فيها، لأنهم أدرى بشعابها وأصدق انتماءً لها. غير أن هذا المثل، وللأسف، لم يعد ينطبق على واقع الحال في الأردن اليوم، إذ إن معظم الأعمال المهنية واليدوية في قطاعات البناء والزراعة وجزء كبير من الصناعة والخدمات أصبحت تعتمد على العمالة الوافدة من مصر وسوريا واليمن وغيرها، بينما يقف كثير من أبناء البلد بعيدين عن ميادين العمل الجاد، متجهين نحو الوظائف السهلة والمريحة التي لا تتطلب جهداً أو تعباً.
لقد تغيّر المفهوم الشعبي للعمل، وتبدلت الثقافة التي كانت سائدة في زمن الآباء والأجداد، أولئك الذين عرفوا قيمة العرق والكفاح في سبيل لقمة العيش. كانوا يعملون في أراضيهم، أو يضمنون أراضي الغير، أو يعملون كـ“قطارزية” — وهو جمع قطروز أي العامل الزراعي الذي يعمل لدى الآخرين لتأمين قوته وكساء أسرته. كما ساهموا في شق الطرق وبناء الجسور والعمل في المحاجر والحرف المهنية المختلفة، وكانت جميع تلك المهن تتطلب جهداً حقيقياً وتفانياً من الفجر حتى الغروب.
أما اليوم، فقد أصبح الكثير من الشباب يبحثون عن الوظائف المريحة، والمكاتب المكيفة، ويعتبرون العمل اليدوي انتقاصاً من المكانة الاجتماعية أو سمعة العائلة. بل إن البعض بات يتفاخر بأنه لا يعمل بيديه، وكأن الجهد عيب، بينما العمل الشريف كان يوماً وسام فخرٍ يعلّق على صدور الرجال. ومع الأسف، انتشرت ثقافة شطارة التحايل على الوظيفة؛ فالكثيرون لا يؤدون أعمالهم بإخلاص، ويتفننون في التهرب من المسؤولية، والتمارض للحصول على إجازات سنوية أو طبية دون حاجة حقيقية لها. والأسوأ أن هناك من الأطباء – قلة منهم طبعاً – من يسهلون مثل هذه التجاوزات، في مقابل أطباء كثر ما زالوا يتمسكون بشرف المهنة وضميرها الحي.
إن هذه الثقافة السلبية جعلت جيلاً كاملاً يرى في الوظيفة هدفاً بحد ذاته، لا وسيلة للعطاء والإنتاج. فتجد البعض يتمنى أن تُتاح له وظيفة وهو في منزله دون جهد أو حضور، متناسين أن العمل عبادة وأن الأمم لا تبنى إلا بسواعد أبنائها. وأن الاردن الذي تزيد فيه العمالة الوافدة على ربع القوة العاملة، بينما تتجاوز نسبة البطالة بين أبنائه الـ25%، لا يمكن أن يحقق اكتفاءً ذاتياً ولا نهضةً اقتصادية متوازنة.
إن تحويلات العمالة الوافدة من العملة الصعبة تُقدّر بالمليارات سنوياً، وهي أموال كان يمكن أن تبقى داخل الدورة الاقتصادية المحلية لو استثمر الأردنيون في العمل المهني والزراعي والصناعي بأنفسهم. لو أن عجول البلد عادت لتفلح أرضها بجهدها وإرادتها كما كان الأجداد، لكان واقعنا مختلفاً، ولما كنا نشتكي من بطالة الشباب وضعف الإنتاج.
وقد يقول البعض إن هذا الوضع ليس خاصاً بالأردن، وإنه موجود في دول الخليج أيضاً، ولكن المقارنة غير عادلة. فدول الخليج تمتلك ثروات نفطية ضخمة تغطي احتياجاتها وتبرر اعتمادها النسبي على العمالة الأجنبية، أما الأردن فلا يملك تلك الثروات، ويعتمد على موارده البشرية أساساً، فكيف يعقل أن يتخلى عن أهم عنصر قوة لديه؟
في دول العالم المتقدمة، وحتى تلك التي تعاني من محدودية الموارد، نجد أن أبناءها يعملون في مختلف القطاعات، ولا تسيطر العمالة الوافدة على السوق كما هو الحال لدينا. انظر إلى الصين مثلاً، التي تفاجئ العالم يومًا بعد يوم بإنجازاتها المذهلة من مشاريع عملاقة مثل “طريق الحرير” وناطحات السحاب التي تُبنى في أيام معدودة، والجسور المعلقة التي تمتد لمئات الأمتار؛ كل ذلك يتم بأيادٍ صينية خالصة، بسواعد “عجولها” التي تؤمن بثقافة العمل والإنتاج والانتماء الحقيقي.
فالأمم لا تبنى بالكلام ولا بالوظائف السهلة، بل بالعرق والإخلاص والإنتاج. وإن أردنا أن ننهض، فعلينا أن نعيد الاعتبار إلى ثقافة العمل الجاد، وأن نغرس في أجيالنا أن الكرامة لا تُصان بالجلوس خلف المكاتب، بل بتعمير الوطن بسواعد أبنائه.
والله من وراء القصد.