facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الذكاء الاستراتيجي


د. صالح سليم الحموري
02-11-2025 10:12 PM

في عالمٍ يتحرك بسرعة الضوء، لم يعد التخطيط الاستراتيجي مجرّد أوراق أنيقة توضع في الأدراج بعد الانتهاء من كتابتها، ولم يعد رفاهية إدارية يمكن تأجيلها أو الاكتفاء بها كتمرينٍ شكلي. لقد أصبح فنًّا للبقاء والتميّز، وأداةً لاصطياد الفرص قبل أن يراها الآخرون. ففي زمن التحولات الكبرى - من الثورة الصناعية الرابعة إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي وحديثاً الذكاء الاصطناعي التوكيلي - تحتاج الحكومات والمؤسسات إلى نوعٍ مختلف من الذكاء؛ ذكاءٍ لا يكتفي برسم الطريق، بل يقرأ المستقبل قبل أن يأتي. ذلك هو الذكاء الاستراتيجي.

هذا الذكاء ليس شعارًا يُرفع في الخطط السنوية، ولا تقنية جامدة تُضاف إلى الهياكل الإدارية، بل هو قدرة مؤسسية وقيادية على جمع المعلومات وتحليلها وتفسيرها وتحويلها إلى بصائر تمكّن صانع القرار من فهم الاتجاهات المستقبلية واتخاذ قرارات استباقية قبل وقوع الأحداث. إنه مزيجٌ دقيق من التحليل والتوقع والابتكار، يربط بين الرؤية البعيدة والعمل اليومي، وبين المعلومة الخام والمعنى الذي يصنع القرار. والذكاء الاستراتيجي لا يكتفي بالإجابة عن سؤال “أين نحن اليوم؟” بل يتجاوزه إلى سؤالٍ أعمق: “إلى أين يتجه العالم؟ وكيف يمكننا أن نسبقه بخطوة؟”.

الخطأ الشائع أن يُختزل الذكاء الاستراتيجي في وضع خطةٍ أفضل، بينما الخطة ليست الغاية، بل انعكاس لقدرتنا على رؤية ما لا يراه الآخرون. فالفرق بين مؤسسة عادية وأخرى رائدة يكمن في قدرتها على تحويل المعلومة إلى بوصلة، وعلى التقاط "الإشارات الضعيفة" التي تسبق التحولات الكبرى في الأسواق والسياسات والمجتمعات. ولهذا، فإن الحكومات الذكية - مثل حكومة دولة الإمارات - لا تصوغ استراتيجياتها في فراغ، بل تنطلق من تحليلٍ عميق للاتجاهات العالمية، وفهمٍ للتحولات التقنية، ورسمٍ لسيناريوهات مستقبلية مترابطة.

في قلب هذه العملية، ينبض مفهوم الذكاء الاستراتيجي كما لو كان العقل الخفي للمؤسسة؛ ذلك العقل الذي لا يكتفي بمراقبة ما يحدث، بل يسعى إلى قراءة ما سيحدث. يصبح رصد التحولات العالمية جزءًا طبيعيًا من عملية اتخاذ القرار، ويغدو الاستشراف الأفقي أشبه بمرصد دقيق يلتقط الإشارات المبكرة قبل أن تراها العين المجردة. هذه الإشارات الصغيرة التي تمر أحيانًا بلا انتباه، قد تكون الشرارة التي تغيّر شكل القطاعات والمجتمعات والأسواق.

وحين تتقاطع هذه الرؤى مع منهجيات تخطيط السيناريوهات، تتكوّن أمام صانع القرار لوحة بانورامية لمستقبلات متعددة، تُشبه خرائط جوية واسعة لمناخٍ قادم. في تلك اللحظة، لا يعود القرار مجرّد رد فعل، بل يصبح حركة واعية نحو مستقبلٍ اختُبر مسبقًا على الورق والعقل. وهكذا، يمتلك القائد القدرة على التحرك برشاقة، متقدّمًا بخطوة، بدلاً من أن يكون أسيرًا لمفاجآت الواقع.

ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى المشهد، لم تعد هذه العملية مجرد تحليل بشري تقليدي، محدود بقدرات الإنسان على الربط والتوقع، بل أصبحت مدعومة بأدوات تحليلية متقدمة قادرة على معالجة كميات هائلة من البيانات وتحويلها إلى بصائر دقيقة، تُضبط بها البوصلة الاستراتيجية، وتُرسم على ضوئها القرارات المصيرية. عندها فقط، يتحول الذكاء من مهارة قيادية إلى منظومة استبصار حقيقية… منظومة ترى ما وراء الأفق.

هذه الأدوات، مهما بلغت من تطوّر، لا تلغي دور الإنسان، بل توسّعه. فهي تمكّنه من التفكير أبعد من حدود اللحظة، وترسم له خرائط جديدة للقرار. فالقائد الذكي استراتيجيًا لا ينشغل بإدارة الواقع فحسب، بل يصمّم المستقبل كما يريد أن يراه.

وفي جوهر هذه المنظومة، يتجلى الذكاء الاستراتيجي كقدرة قيادية قبل أن يكون بنية تقنية. إنه لا يُقاس بكمّ المعلومات المتوفرة، بل بقدرتنا على تحويلها إلى بصائر قيادية تصنع الفارق. هو توازن بين التحليل العقلي، والحدس القيادي، والرؤية الإنسانية. فالقائد الذكي استراتيجيًا لا ينتظر المستقبل ليحدث، بل يصمّمه بقراراته اليوم. وكما يُقال: «القائد العادي يتعامل مع الواقع، أما القائد الذكي استراتيجيًا فيتعامل مع الممكن".

لقد أصبح الذكاء الاستراتيجي العملة الجديدة للقيادة الحكومية في عصر التحولات الكبرى. إنه القدرة على الربط بين البيانات والمعنى، بين الرؤية والتنفيذ، بين الإنسان والتقنية. وعندما تمتلك المؤسسات هذا النوع من الذكاء، تتحول من متلقٍ للمستقبل إلى صانعه، ومن مؤسسة تكتفي بالتكيّف إلى مؤسسة تقود التغيير.

* د. صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :