الذكاء الاصطناعي: هل انتهى زمن الاختيار الحر؟
د. رائد عودة
03-11-2025 05:16 PM
هل نستطيع أن نعيش يومين فقط من دون أي استخدام للذكاء الاصطناعي؟ لا أدوات ذكية، لا خوارزميات تعلم آلي، لا "ذكاء" في أي شيء. هذا بالضبط التحدي الذي خاضه كاتب من صحيفة نيويورك تايمز، ظنًا منه أن الأمر سيكون سهلًا.
لكن ما اكتشفه الكاتب كان صادمًا. فهو لم يستطع تشغيل الأضواء الذكية في منزله من دون أن تمرّ الأوامر عبر مساعد صوتي يعمل بخوارزميات التعلم الآلي لفهم اللغة الطبيعية. ولم يتمكن من معرفة حالة الطقس. وحتى استخدام ماء الصنبور أصبح إشكاليًا، إذ تعتمد أنظمة معالجة المياه في مدينته على خوارزميات للتنبؤ بالطلب وضبط جودة المعالجة تلقائيًا.
وانتهى به الأمر إلى أن يتجوّل بالدراجة في المدينة مستخدمًا خريطة ورقية، وأن يأكل نباتات جمعها بنفسه، وأن يكتب على الورق تحت ضوء الشموع.
وفي نهاية التجربة، توصّل إلى استنتاج مذهل: لم يعد الذكاء الاصطناعي خيارًا نستخدمه، بل أصبح شرطًا لممارسة حياتنا اليومية. فهو لم يعد أداة منفصلة، بل أصبح الطبقة الخفية التي يقوم عليها العالم الحديث.
وتكشف هذه القصة إلى أي مدى أصبحت حياتنا اليومية تعتمد على أنظمة لا نكاد نلاحظها. فالذكاء الاصطناعي ليس محصورًا فقط في برامج الدردشة أو فلاتر الصور أو حتى شات جي بي تي، بل إنه يعيش في أنظمة الطاقة، والطعام، والموارد البشرية، والسفر، وحتى في الطريقة التي يُرتّب بها بريدنا الإلكتروني نفسه.
ولا يقتصر الأمر على المدن الغربية. ففي منطقتنا العربية، نجد أن الذكاء الاصطناعي يدير أنظمة الحجز في المطارات، ويحلل صور الأشعة في المستشفيات، ويتحكم في إشارات المرور في كثير من المدن. وحتى تطبيقات توصيل الطعام التي نستخدمها يوميًا تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد مسارات التوصيل وأوقات التسليم.
لكن هناك فارق جوهري بين أنواع الذكاء الاصطناعي التي نستخدمها: فبعضها يعمل في الخلفية لتحسين الكفاءة دون أن يؤثر على قراراتنا (كأنظمة إدارة الطاقة أو مراقبة جودة المياه)، وبعضها يتدخل مباشرة في تشكيل خياراتنا وآرائنا (كخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تختار ما نراه). والفرق بينهما ليس تقنيًا فقط، بل أخلاقي أيضًا: الأول يخدمنا في صمت، والثاني قد يوجّهنا دون علمنا.
وهنا يبرز السؤال الأعمق: ماذا يعني أن نفقد السيطرة على عمليات لا نراها؟ وهل نحن نعيش في "راحة ذكية" أم في "اعتماد غير مدروس" على أنظمة تُفكّر عنا بصمت؟ وربما التحدي الحقيقي ليس في الابتعاد عن الذكاء الاصطناعي، فهذا شبه مستحيل، بل في استعادة وعينا بوجوده، وإدراك اللحظات التي يقرر فيها بدلًا منا.
وسواء كنا أفرادًا أو صانعي قرار، فإن هذا الوعي هو الخطوة الأولى للبقاء في موقع الفعل.
فبالنسبة للقادة وصناع القرار، يمثل هذا الوعي طريقة تفكير، تقوم على طرح أسئلة مثل: ما الذي يشغّل هذه أو تلك العملية؟ من درّب النظام؟ ومن المستفيد منه؟ وكيف يمكن توجيه هذه التقنيات لخدمة الإنسان لا العكس؟
أما على المستوى الفردي، فلا يكفي أن ندرك وجود الذكاء الاصطناعي من حولنا، بل أن نمارس هذا الوعي في حياتنا اليومية. وهذا يتطلب خطوات عملية منها أن نعيد النظر في إعدادات الخصوصية في أجهزتنا الذكية وأن نسأل أنفسنا عمّا تفعله التطبيقات ببياناتنا، وأن ننوّع مصادر المعلومات بدلًا من ترك خوارزمية واحدة تختار لنا ما نقرأ ونشاهد، وأن نطالب بشفافية حقيقية من الشركات حول كيفية عمل أنظمتها. فالمعرفة هنا ليست ترفًا، بل حق يحمي وعينا واختيارنا.
وإذا كان هذا هو واقعنا اليوم، فماذا عن غدٍ؟ فمع تسارع تطوير الذكاء الاصطناعي التوليدي والأنظمة المستقلة، قد نصل إلى نقطة لا نستطيع فيها التمييز بين القرار البشري والقرار الآلي. والسؤال الذي يجب أن نطرحه ليس "هل نستطيع العيش بدون الذكاء الاصطناعي؟" فالإجابة واضحة: لا نستطيع، بل "أي نوع من العلاقة نريد أن نبنيها معه؟ وهل سنظل نحن من يقرر؟"
ودعوتنا إلى الوعي بوجود الذكاء الاصطناعي في كل تفصيل من حياتنا ليس دعوة للخوف، بل دعوة للفعل. فما زال الخيار بأيدينا، لكن فقط إذا أدركنا أن لدينا خيارًا من الأساس.