غرفة صناعة إربد: حين تلتقي الجامعة بالمصنع لمستقبل الأردن
أ.د احمد منصور الخصاونة
03-11-2025 09:56 PM
لم تعد الصناعة في الأردن مجرد نشاط اقتصادي تقليدي، بل أصبحت اليوم أحد محركات التغيير وأعمدة التنمية المستدامة. وفي هذا الإطار، تبرز غرفة صناعة إربد كأحد أهم النماذج الوطنية التي تسعى إلى إعادة تعريف دور المؤسسات الصناعية بوصفها شركاء فاعلين في بناء الإنسان والاقتصاد والمجتمع. فالغرفة لا تعمل ضمن حدود الإنتاج والتجارة فحسب، بل تتجاوزها نحو بناء منظومة تكاملية تجمع بين الصناعة والتعليم والبحث العلمي، وتعيد صياغة العلاقة بين الجامعة والمصنع، بين القاعة الدراسية وخط الإنتاج، وبين المعرفة والعمل.
إن فلسفة العمل التي تنتهجها الغرفة تقوم على الإيمان بأن الصناعة لا تزدهر بمعزل عن التعليم، وأن الجامعات ليست مؤسسات أكاديمية مغلقة، بل حواضن للفكر والإبداع ينبغي أن تتفاعل مع واقع السوق ومتطلباته. من هنا، أخذت الغرفة على عاتقها مهمة بناء الجسور بين القطاعين الأكاديمي والإنتاجي، لتتحول تلك العلاقة من لقاءات موسمية إلى شراكة مؤسسية مستدامة. فالتشبيك بين الطرفين لم يعد ترفًا تنظيريًا، بل أصبح شرطًا ضروريًا لرفع تنافسية الخريجين، وضمان مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات الاقتصاد الوطني.
وتعمل غرفة صناعة إربد على تحويل هذا التشبيك إلى برامج عملية ملموسة، من خلال مبادرات للتدريب التطبيقي والتأهيل المهني، تهدف إلى تمكين الطلبة من اكتساب المهارات التقنية والعملية التي يحتاجها سوق العمل. كما تسعى الغرفة إلى دعم الجامعات في تحديث مناهجها وربطها بالتحولات التكنولوجية التي يشهدها العالم الصناعي، بما في ذلك التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والتصنيع الذكي. وبهذا المعنى، فإنها لا ترى في الطالب متلقّيًا للمعرفة فحسب، بل مشروعًا إنتاجيًا قابلًا للتطوير، يختزن طاقة قادرة على تحريك عجلة الاقتصاد.
إن هذه الرؤية المنفتحة تنسجم تمامًا مع النهج الملكي في دعم القطاع الصناعي، الذي عبّر عنه جلالة الملك عبدالله الثاني مرارًا في لقاءاته مع الصناعيين، مؤكدًا أن الصناعة الوطنية هي عماد الاقتصاد الأردني وأحد مفاتيح التشغيل والنمو. فقد حملت اللقاءات الملكية مع ممثلي القطاع الصناعي رسالة واضحة بأن الدولة تراهن على الصناعة لتكون القاطرة التي تجرّ بقية القطاعات نحو الازدهار، ولتتحول من مجرد نشاط إنتاجي إلى مشروع وطني متكامل.
وفي هذا السياق، كان موقف غرفة صناعة إربد منسجمًا مع هذه الرؤية الهاشمية، حيث أكدت التزامها بتحويل التوجيهات الملكية إلى خطط واقعية تعزز القدرة الإنتاجية، وتدعم الصادرات، وتُسهم في رفع مستوى جودة المنتج الأردني. فالصناعة بالنسبة للغرفة ليست مجرد نشاط اقتصادي يسعى إلى الربح، بل رسالة وطنية ترتبط بكرامة العمل، وبناء الذات، واستقلال القرار الاقتصادي.
كما تؤمن الغرفة بأن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي يبدأ من الميدان، من الورش والمصانع والمبادرات التي تحفّز الشباب على العمل والإبداع، لا من وراء المكاتب والتقارير. لذلك، كانت دعوتها الدائمة إلى إشراك الجامعات ومؤسسات التعليم التقني في وضع الخطط الصناعية والتدريبية، لتشكّل هذه الشراكة نقطة التقاء بين النظرية والممارسة، وبين التعليم والإنتاج. فالمهارة لم تعد ناتجًا ثانويًا للتعليم، بل غاية مركزية لا يمكن تحقيق التنمية دونها.
وفي ضوء التحديات العالمية التي تواجه الصناعة – من المنافسة الإقليمية إلى التحولات التكنولوجية العميقة – أدركت غرفة صناعة إربد أن استدامة النمو لا تتحقق إلا بالاستثمار في الإنسان قبل الآلة، في المعرفة قبل رأس المال. ولهذا جاء اهتمامها المتزايد ببرامج ريادة الأعمال الصناعية، وتشجيع الابتكار بين الشباب، وربط الأفكار الخلّاقة بمؤسسات الإنتاج، لتتحول من مشاريع أكاديمية إلى مشاريع اقتصادية حقيقية.
إن ما يميز غرفة صناعة إربد هو قدرتها على الجمع بين البعد الوطني والبعد التنموي في رؤيتها. فهي تدرك أن الصناعة ليست غاية بذاتها، بل وسيلة لبناء وطن قوي متماسك، وأن المصنع يمكن أن يكون مدرسة تكمّل دور الجامعة في بناء الإنسان العامل المبدع. ومن هذا المنطلق، تتبنى الغرفة فلسفة تقوم على المعادلة الثلاثية: التعليم يصنع الإنسان، الجيش يحمي الوطن، والصناعة تبني المستقبل. وهي معادلة لا تعبّر عن شعار عابر، بل عن رؤية متكاملة تجعل من الصناعة شريكًا في أمن الوطن واستقراره ونموه.
ومع كل مبادرة تطلقها الغرفة، يتأكد أن التنمية لا يمكن أن تكون فعلًا منفصلًا عن الوعي، ولا الصناعة عن الثقافة. فالصناعة الواعية هي التي تدرك قيمتها في خدمة الإنسان والمجتمع، وتلتزم بالمسؤولية الوطنية تجاه البيئة والتعليم والفرص العادلة. ولعل الدور الذي تؤديه غرفة صناعة إربد اليوم في تأهيل الشباب، وتمكين المرأة في المجال الإنتاجي، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، يعكس وعيًا متقدمًا بطبيعة الدور الاجتماعي للمؤسسات الصناعية.
إن التجربة التي تمثلها غرفة صناعة إربد تشكّل نموذجًا يحتذى به لبقية الغرف والمؤسسات، لأنها تبرهن أن العمل الصناعي يمكن أن يكون أداة للتنمية الفكرية والاجتماعية إلى جانب دوره الاقتصادي. إنها تجسد المعنى الحقيقي للتكامل الوطني: أن تتعاون الجامعة مع المصنع، وأن يتقاطع الفكر مع التطبيق، وأن يكون التعليم والصناعة وجهين لعملة واحدة اسمها "الأردن المنتج".
وبينما يمضي الوطن في مسيرته نحو التحديث والإصلاح الاقتصادي، تبقى غرفة صناعة إربد شاهدًا حيًا على أن النجاح لا يولد من الفراغ، بل من التخطيط والرؤية والإيمان بقدرة الإنسان الأردني على البناء والإبداع. فحين تتلاقى الإرادة مع العمل، ويتحد التعليم مع الصناعة، يصبح المستقبل أكثر وضوحًا، وأكثر قدرة على حمل تطلعات وطن أراد له قائده أن يكون نموذجًا في الاعتماد على الذات وصناعة الأمل.