"شاشتنا الوطنية" .. أزمة معايير أم أزمة رؤية؟
فيصل تايه
06-11-2025 09:42 AM
الحديث عن "شاشتنا الوطنية الأردنية" لا يمكن اختزاله في تحليل إداري أو مراجعة ضيقة الأفق، فالأمر أعمق بكثير، لانه يمس أحد أبرز رموز الدولة وهيبتها في وجدان الأردنيين، فهذه الشاشة الرسمية لم تنشأ لتكون نافذة "عرض" فحسب، بل هي منبر الدولة وصوتها الصادق، وخط الدفاع الأول عن وعيها الجمعي.
اننا في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتداخل الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلم يعد الإعلام ترفاً أو أداة تكميلية، بل رافعة رئيسة في بناء الثقة وتعزيز الإصلاح وتوجيه الوعي العام، لذلك، فإن الجدل الذي أثارته التعيينات الأخيرة لا يمكن فهمه من زاوية الأسماء أو المناصب، بل من زاوية المعايير والرؤية، إذ يرتبط جوهر القضية بفلسفة إدارة الإعلام الرسمي واتجاهه في مرحلة دقيقة من عمر الدولة الأردنية الحديثة.
يجب ان نعي تماماً ان التحدي الحقيقي الذي يواجه "التلفزيون الأردني" لا يكمن في تجديد الوجوه أو تدوير المناصب، بل في إعادة تعريف الدور والهوية والرسالة، فقد تجاوزنا زمن المجاملة الإعلامية والرسائل النمطية، ودخلنا مرحلة تتطلب عقولاً تمتلك أدوات التحليل والتأثير والوعي، فهذه المرحلة لا تحتمل الاجتهاد الارتجالي أو الاختيار الشكلي، بل تحتاج إلى كفاءات نوعية تمتلك المعرفة والخبرة والقدرة على فهم متطلبات المرحلة.
لا بد ان نعترف ان "شاشتنا الوطنية" تفتقر اليوم إلى الخبرات التخصصية، فعلى الصعيد الاقتصادي، نحتاج إلى إعلامي يعي لغة الأرقام كما يفهم لغة الناس، وقادر على تبسيط المفاهيم المالية وشرح السياسات الحكومية بلغة موضوعية تبني الثقة وتطمئن الشارع، وتجذب الاستثمار بخطاب عقلاني متزن يربط الاقتصاد بحياة الناس اليومية، واما على الصعيد السياسي، فالمطلوب "محللين مهنيين" يمتلكون عمق القراءة واتزان الطرح وهدوء الموقف، يحاورون بحكمة ويقدمون صورة وطنية مسؤولة تعكس موقع الأردن ودوره الإقليمي، وتمنح النقاش العام مصداقية تليق بالدولة ومكانتها.
كما ولا يقل الجانب الثقافي والمجتمعي أهمية عن ذلك، فالإعلام الذي يتجاهل دوره التربوي يترك فراغاً تملؤه الشائعات وخطابات الكراهية والانغلاق ، فما نحتاجه اليوم "إعلام" يربي قبل أن يرفه ، ويبصر قبل أن يسلي ، "إعلام" يؤمن برسالته التنويرية ويتعامل مع الشباب كطاقة واعية تستحق الاستثمار والتوجيه، لا كجمهور عابر امام الشاشة ، وكذلك الأمر في الخطاب الديني، الذي يجب أن يقدم من خلال وجوه مستنيرة تحمل الفكر الوسطي وتقدم الإسلام بروح عصرية متصالحة مع العقل والحياة، وتزرع قيم التسامح وتواجه الفكر المتطرف بالحجة والقدوة.
يجب ان ندرك ان غاية "التلفزيون الوطني الأردني" تتجاوز ملء ساعات البث ، الى رسالة حية تنبض في العقول والقلوب ، تبني وعي الأجيال وتزرع الثقة في النفوس ، وإنه أكثر من وسيلة إعلامية ، بل منبر تربوي وفكري واجتماعي ، يصنع الإنسان الواعي، ويعمق الانتماء، ويغرس قيم الهوية الوطنية الراسخة ، فهذه "الشاشة الرسمية" قوة استراتيجية تعكس روح الدولة، وترسم مستقبلها، وتؤكد رسالتها الحضارية، لتظل منارة لكل مواطن ومعلماً وطنياً يضيء الطريق نحو مجتمع واع ومسؤول .
لقد أثار بعض ما جرى من تعيينات ، رغم احترامنا للشخوص، انطباعاً بأنها تجميلية أكثر من تطويرية ، وكأن الهدف تحسين الواجهة لا معالجة الجوهر ، وهنا يبرز السؤال الذي يجب أن يطرح بشجاعة: هل تبحث "شاشتنا الوطنية" عن تجميل الواجهة أم عن هندسة العقول وبناء الوعي؟ فالنقد الموجه لآلية الاختيار لا ينطلق من موقف شخصي أو تنافس فردي، بل من غيرة وطنية مخلصة تؤمن بأن الموارد العامة يجب أن تدار بأعلى درجات الشفافية وتكافؤ الفرص.
البعض ممن لديهم انتقادات اعتبروا ان ما حصل هو استبدال لمعايير الكفاءة بمسارات يغلب عليها الطابع الشخصي عبر نظام "شراء الخدمات"، ما يصل الى توجسات تؤدي الى اضعاف ثقة الناس بالمؤسسات ويمنح الشك مساحة في وجدانهم ، فالإصلاح الحقيقي يبدأ حين نعيد الاعتبار لمبدأ الكفاءة كميزان وحيد في التعيين والتكليف، لأن "التلفزيون الوطني الأردني" لا يحتمل المجاملة ولا التجريب، بل يحتاج إلى قرار شجاع يضع المحتوى قبل الاسم، والفكر قبل الشكل، والمصلحة العامة قبل أي اعتبار.
ومع قناعتنا التامة ان "الشاشة الرسمية" فقدت جزءاً ملموساً من جمهورها خلال السنوات الأخيرة، ليس بسبب ضعف الإمكانات، بل لأن الناس لم يجدوا فيها ما يعبر عنهم أو يلامس واقعهم بصدق ، وبذلك ، فان "التعيينات الجديدة" إذا لم تتحول إلى نقطة تحول حقيقية في النهج والمضمون، فسنظل ندور في حلقة التجميل الهيكلي الذي لا يصنع إصلاحاً ولا يعيد ثقة الجمهور ، فإعادة البريق تبدأ من وضع معايير واضحة وشفافة للاختيار، تقوم على التخصص والقدرة والوعي، وتؤمن بأن الإعلام الوطني ليس مكتباً لترويج السياسات، بل شريكاً فاعلاً وذراعاً فكرية للدولة.
اليوم ، نخاطب المسؤولين عن إدارة الإعلام الرسمي، الذين جسدوا الكفاءة والخبرة والحرص الوطني ، ونقول لهم : انتم اهلاً لها ، وان استعادة ثقة الجمهور لا تأتي بالشعارات أو المجاملات، بل بالمهنية الصادقة والرؤية الوطنية التي تعلي الفكر ، وتكرم الكفاءة، وتمنح المبدع مساحة ومسؤولية حقيقية ، فحين يعلو صوت العقل والفكر على صوت الوجاهة، وتفتح الشاشات للرأي الحر البناء والنقد الواعي، سيستعيد "التلفزيون الأردني" مكانته الطبيعية كمنبر وطني رصين، يعكس تاريخ الدولة العريق، ويرسم صورة إعلام وطني متجدد يخاطب العقل والوجدان ويعبر عن الوطن بكل فخر واعتزاز.
وأخيراً ، فالإصلاح الإعلامي في جوهره ليس مجرد عملية تجميلية لتغيير الوجوه، بل عملية فكرية تعيد تعريف المعنى والرسالة والدور ، وحين ننجح في بناء رؤية إعلامية حقيقية، سنمتلك إعلاماً وطنياً يخاطب العقل الأردني بعمق، والعالم باحترام، والدولة بثقة ، فتلك هي البداية التي تستحق أن تُكتب .
والله ولي التوفيق