إلى أين يتجه الاقتصاد العالمي مع اقتراب نهاية العقد؟
د. محمد الحدب السرحان
06-11-2025 12:32 PM
يدخل الاقتصاد العالمي النصف الثاني من عقدٍ استثنائي أعاد تعريف النمو والتجارة والتكنولوجيا. من إغلاق المصانع والموانئ أثناء جائحة كوفيد-19، إلى حربٍ في قلب أوروبا هزّت أسواق الطاقة والغذاء، مرورًا بموجة تضخم غير مسبوقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وصولًا إلى تصاعد الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين — دخل العالم عقدًا جديدًا مليئًا بالاختبارات. خمس سنوات كانت كفيلة بقلب المعادلات التي استقرت لعقود. في هذا المقال، نحاول قراءة ملامح نصف العقد القادم: إلى أين يتجه الاقتصاد العالمي خلال ما تبقى من عشرينيات القرن الحالي؟ وهل يمكن للدول الصغيرة، مثل الأردن، أن تجد موقعًا جديدًا في هذا المشهد المتحوّل؟
عقد الاضطرابات الاقتصادية 2020-2025
منذ مطلع العقد الحالي، وجد العالم نفسه أمام مزيج غير مسبوق من الأزمات المتداخلة التي أعادت تشكيل بنية الاقتصاد العالمي في غضون خمس سنوات فقط. فبعد أن دخلت البشرية عام 2020 بتفاؤل حول التحول الرقمي والطاقة النظيفة، باغتت جائحة كوفيد-19 العالم، لتتسبب في أكبر انكماش اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية، حيث انكمش الناتج العالمي بأكثر من 3.1% عام 2020 وفق صندوق النقد الدولي، وتراجعت التجارة السلعية بنحو 7.5% حسب منظمة التجارة العالمية.
ومع تعافي النمو تدريجيًا خلال 2021–2022، سرعان ما اصطدم العالم بحدثٍ زلزالي آخر — الحرب الروسية-الأوكرانية — التي أطلقت موجة تضخمية عالمية غير مسبوقة. فقد ارتفع متوسط أسعار الطاقة عالميًا بنسبة 50% في عام 2022، وقفزت أسعار الغذاء بنحو 35%، ما انعكس مباشرة على الاقتصادات النامية ورفع معدلات الفقر والجوع.
ولم تكد الأسواق تلتقط أنفاسها حتى عادت الولايات المتحدة والصين إلى مواجهة تجارية متجددة، مع تصاعد “حرب الرسوم الجمركية” وتوجه واشنطن إلى سياسة “إعادة التصنيع الوطني” وفرض تعريفات جمركية جديدة تشمل السلع الإلكترونية والمعادن الإستراتيجية.
ووفقًا لتقرير Oxford Economics الصادر في 30 أكتوبر 2025، أظهر مؤشر Maritime Trade Index — وهو مؤشر يومي يرصد حركة التجارة البحرية العالمية — أن حجم التجارة تراجع بنحو 1.3% على أساس شهري في منتصف سبتمبر 2025، لتصبح أقل بنحو 3.4% عن ذروتها المسجلة في أبريل من العام نفسه. ويعكس هذا التراجع فقدانًا متواصلًا في زخم التجارة البحرية، التي تمثل العمود الفقري للتجارة السلعية العالمية، في ظل تصاعد الحواجز التجارية وإعادة تشكل سلاسل الإمداد.
في الوقت نفسه، شهد العالم موجة تضخم ممتدة بين 2022 و2024 وصلت في الاقتصادات المتقدمة إلى متوسط 6.8%، وهي الأعلى منذ ثمانينيات القرن الماضي. وأدت الإجراءات النقدية الصارمة ورفع أسعار الفائدة إلى تباطؤ النمو في الولايات المتحدة وأوروبا، بينما حافظت آسيا — بقيادة الصين والهند — على مساهمتها التي تجاوزت 50% من إجمالي النمو العالمي.
كل هذه الأزمات المتلاحقة — الصحية، الجيوسياسية، والمالية — لم تكن أحداثًا منفصلة، بل شكلت ما يمكن تسميته بـ“عصر الأزمات المركبة”، حيث تتشابك السياسة بالتجارة بالتكنولوجيا، فيتحول الاقتصاد العالمي من حالة العولمة المفتوحة إلى مرحلة جديدة من إعادة التشكل وإعادة التموضع.
نحن لا نعيش نهاية دورة اقتصادية، بل بداية نظام اقتصادي عالمي جديد يعيد ترتيب مراكز الإنتاج والثقل المالي ومفاهيم النمو ذاتها.
من العولمة إلى الإقليمية: الاقتصاد العالمي يعيد التموضع
خلال العقود الثلاثة الماضية، مثّلت العولمة التجارية رافعة النمو الاقتصادي العالمي، حيث تضاعف حجم التجارة السلعية والخدمية بين عامي 1990 و2019 أكثر من ثلاث مرات. إلا أن السنوات الخمس الأخيرة، بحسب تقارير منظمة التجارة العالمية (WTO) ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، كشفت عن بداية مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ “تفكك العولمة الكلاسيكية.”
ففي أكتوبر 2025، سجل مؤشر Maritime Trade Index تراجعًا في أحجام التجارة البحرية العالمية بنحو 3.4% عن ذروتها في أبريل 2025، وتوقع المؤشر انخفاض الطلبيات الأمريكية من الصين والمكسيك وكندا بأكثر من 6% في عام 2026. وتشير بيانات UNCTAD إلى أن حصة التجارة العالمية من الناتج المحلي الإجمالي انخفضت من 60% عام 2019 إلى أقل من 54% في 2024، وهي أول تراجع هيكلي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
في المقابل، بدأت سلاسل الإمداد العالمية تعيد التموضع جغرافيًا. فمع القيود الجمركية الأمريكية على الصين، برزت مناطق جديدة كمراكز تصنيع بديلة — من فيتنام وإندونيسيا في آسيا، إلى بولندا ورومانيا في شرق أوروبا، وصولًا إلى السعودية والإمارات في الشرق الأوسط التي أصبحت وجهات جاذبة للاستثمارات الصناعية والتحويلية.
وتشير توقعات منظمة التجارة العالمية إلى أن الشرق الأوسط سيشهد زيادة في حجم الصادرات الصناعية بأكثر من 9% بحلول 2027، مدفوعًا بمشاريع الطاقة النظيفة والتصنيع المتكامل.
كما ساهمت التحالفات الإقليمية في دعم هذا الاتجاه؛ فالاتحاد الأوروبي وبلدان مجلس التعاون الخليجي ورابطة ASEAN باتت تشكل “تكتلات اقتصادية متشابكة” أكثر من كونها أسواق مفتوحة للجميع. وتصف منظمة OECD هذه المرحلة بأنها “عولمة انتقائية”؛ أي أن التجارة أصبحت مشروطة بالتحالفات الجيوسياسية والثقة المتبادلة، لا بالأسعار فقط.
أما من حيث القطاعات، فصناعة السيارات والأدوية والإلكترونيات شهدت أكبر التحولات. ففي حين استفادت ألمانيا من الإعفاءات الجمركية الأوروبية لتعزيز صادرات السيارات، واجهت شركات أميركية وكندية ارتفاع تكاليف الاستيراد بنسبة تتجاوز %12 ، وفي الوقت نفسه تزايد الطلب العالمي على المعادن الحيوية مثل الليثيوم والنحاس والكوبالت، لتتحول من موارد طبيعية إلى عناصر نفوذ اقتصادي وجيوسياسي.
العالم يتجه نحو اقتصاد إقليمي متداخل، حيث تحلّ “الثقة والتحالفات” محل “الأسعار والتنافسية” كمحددات للتجارة والاستثمار.
النمو والتضخم والديون — التوازن الصعب في العقد الحالي
رغم تعافي الاقتصاد العالمي جزئيًا من آثار الجائحة، إلا أنه لم يستعد بعد توازنه الكامل. فوفق صندوق النقد الدولي (IMF)، يتوقع أن يبلغ معدل النمو العالمي نحو 2.9% في عام 2025، على أن يستقر خلال الفترة 2026-2030 عند متوسط يتراوح بين 2.5% و 3%، أي أقل بنقطة مئوية كاملة عن متوسط النمو في العقد السابق (2010–2019). هذه الأرقام تؤكد أن العالم يعيش حالة من النمو المنخفض المستقر (Stable Low Growth)، حيث تتقاطع السياسات النقدية الصارمة مع تحديات الإنتاج وسلاسل الإمداد.
التضخم هو التحدي الأبرز في هذا التوازن. فبعد موجة الارتفاع الحاد التي بلغت ذروتها في عام 2022 عند 8.7% عالميًا، تراجع متوسط التضخم إلى نحو 5.8% في 2024، لكنه ما يزال أعلى من المستويات المستهدفة في معظم الاقتصادات الكبرى. ويرجّح تقرير OECD Economic Outlook 2025 أن يظل التضخم بين 3% و 4% حتى عام 2026، قبل أن يبدأ في التراجع التدريجي مع انخفاض أسعار الطاقة وتراجع الطلب.
ومع ذلك، فإن تكلفة السيطرة على التضخم جاءت باهظة، إذ أدى رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وأوروبا إلى تباطؤ النشاط الاستثماري وارتفاع كلفة التمويل على الحكومات والشركات في الدول النامية.
أما على صعيد الديون العالمية، فقد وصل الدين العام للدول منخفضة ومتوسطة الدخل إلى مستويات قياسية، حيث بلغ 70% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط وفق تقرير World Bank Global Economic Prospects 2025. وتُظهر البيانات أن أكثر من 60% من هذه الدول تواجه مخاطر مرتفعة من المديونية غير المستدامة، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية.
وفي الوقت ذاته، ارتفعت خدمة الدين الخارجي للدول النامية بنسبة 35% منذ 2020، ما يقلص الموارد المتاحة للاستثمار في التعليم والبنية التحتية.
ورغم هذه التحديات، ما تزال هناك بؤر نمو إيجابية. فاقتصادات الصين والهند وإندونيسيا تساهم مجتمعةً بأكثر من 50% من إجمالي النمو العالمي، مدفوعة بالاستثمار في التكنولوجيا والتصنيع المحلي، بينما تسجل الاقتصادات المتقدمة نموًا لا يتجاوز 1.4% ، ويصف تقرير صندوق النقد هذه الظاهرة بأنها "إعادة توازن الشرق والغرب" إذ يتجه الثقل الاقتصادي تدريجيًا نحو آسيا.
الاقتصاد العالمي لا يعيش ركودًا، بل مرحلة انتقالية دقيقة بين ضبط التضخم والحفاظ على النمو. وبينما تكافح الدول الغنية لتجنّب الانكماش، تسعى الدول النامية لتجنّب الغرق في الديون. إنها معادلة النمو البطيء والمكلف.
الوجه الاجتماعي للأزمة — الفقر، البطالة، وعدم المساواة
بينما ركّزت الحكومات والبنوك المركزية في السنوات الأخيرة على مكافحة التضخم واستعادة النمو، تكشّف تدريجيًا وجهٌ آخر للأزمة: وجهٌ اجتماعي اتسعت فيه فجوات الدخل وتآكلت فيه الطبقة الوسطى في العديد من الدول.
فوفق تقرير World Bank – Poverty, Prosperity, and Planet (2024)، تراجع عدد الفقراء عالميًا من 2.3 مليار شخص عام 1990 إلى نحو 831 مليونًا في عام 2025، أي إن البشرية قطعت شوطًا كبيرًا في تقليص الفقر المدقع، لكن وتيرة التراجع تباطأت بشدة خلال العقد الأخير بسبب تراكم الأزمات.
ويُظهر التقرير أن أكثر من 60% من الفقراء يعيشون اليوم في إفريقيا جنوب الصحراء، بينما تزايدت نسبة الفقر في المناطق المتأثرة بالنزاعات وتغير المناخ.
ويحذر البنك الدولي من أن استمرار الوضع الحالي يعني أن القضاء على الفقر المدقع سيستغرق عقودًا إضافية، خصوصًا في ظل تباطؤ النمو في الدول منخفضة الدخل وارتفاع مستويات الدين. ويؤكد التقرير أن النمو الاقتصادي وحده لم يعد كافيًا، بل يجب أن يُرافقه استثمار قوي في البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والمؤسسات لتمكين الأفراد من الخروج من دوامة الفقر.
أما على صعيد سوق العمل، فيشير تقرير منظمة العمل الدولية (ILO – WESO Update 2025) إلى أن معدل البطالة العالمي استقر عند 5.1%، أي أقل من المستويات المسجلة خلال الجائحة، لكنه يخفي وراءه اختلالات هيكلية عميقة.
إذ ارتفعت نسبة العاملين في وظائف غير مستقرة أو بدوام جزئي إلى حوالي 18% من إجمالي القوة العاملة، وتراجعت الأجور الحقيقية في الاقتصادات النامية بأكثر من2% سنويًا خلال الفترة 2022–2024.
كما يشير التقرير إلى أن الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي سيغيران طبيعة الوظائف أكثر من عددها، مما يعني أن الأزمة المقبلة قد تكون أزمة مهارات وليست بطالة تقليدية.
أما على مستوى عدم المساواة في الدخل والثروة، فيوضح World Inequality Report 2025 أن أعلى 1% من السكان يمتلكون 45% من الثروة العالمية، بينما تراجع نصيب الـ50% الأدنى إلى أقل من 8% فقط.
ويصف التقرير هذه الفجوة بأنها “أوسع من أي وقت مضى منذ التسعينيات”، مشيرًا إلى أن التضخم لعب دورًا مزدوجًا: إذ زاد ثروات الأصوليين (مالكي العقارات والأسهم)، وأضعف القدرة الشرائية للطبقات الوسطى والدنيا.
كذلك، حذّر تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة (UNDP HDR 2025) من “أزمة تكافؤ الفرص”، موضحًا أن الفجوة في التعليم والصحة والدخل أصبحت مهددة للنسيج الاجتماعي في العديد من الدول. فمع كل تقدم تكنولوجي، يتسع التفاوت بين من يملكون المعرفة ومن لا يملكونها، لتتحول العدالة الاجتماعية إلى التحدي الأكبر للعقد القادم.
الخطر القادم ليس الركود بل التفاوت الاجتماعي. فالعالم يواجه لحظة مفصلية: إما أن يعيد توزيع ثمار النمو بعدالة، أو يدخل عقدًا جديدًا من التوترات الاجتماعية التي تعصف بالاستقرار الاقتصادي نفسه.
التكنولوجيا والتحول الصناعي — الذكاء الاصطناعي كفرصة وتحدٍ
لم تعد التكنولوجيا “تفصيلًا” في المشهد الاقتصادي؛ إنها المحرّك الذي يعيد توزيع القيمة والوظائف معًا. وتُظهر تقديرات منظمة العمل الدولية أن نحو ربع قوة العمل في العالم قد يشهد تغيّرًا ملموسًا في طبيعة المهام بسبب الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ إذ يُقدّر أن 7.5% من العاملين يشغلون وظائف عالية التعرض يمكن أتمتة جانب كبير من مهامها، و16.3% في وظائف متوسطة التعرض ستتغيّر طبيعتها جزئيًا، في حين أن نحو 76.2% من الوظائف تُعد غير أو قليلة التعرض لهذه التقنيات في الوقت الراهن. ويعني ذلك أن الأثر الأكبر للذكاء الاصطناعي سيكون في تحوّل طبيعة العمل لا في اختفاء الوظائف بالكامل. المثير أن الوظائف متوسطة المهارة هي الأكثر عرضة لإعادة تشكيل المهام، فيما ترتفع نسبة التعرض بين النساء ومع ارتفاع دخل الدول، ما يجعل إدارة التحول المهاري أولوية ملحّة.
لكنّ “التعرّض” لا يعني “زوال الوظائف”؛ بل تحوّلها—بعض المهام ستُؤتمت وأخرى ستُولد، ما يستدعي سياسات سوق عمل نشطة (تدريب، حماية اجتماعية، خدمات تشغيل) لتقليل فجوات المهارات والحدّ من انتقال العمالة إلى الهشاشة. تؤكد ILO أن هذه الحزمة ليست اجتماعية فقط، بل اقتصادية لأنها توسّع عرض المهارات وتخفّض كلف الدوران والاختلالات في السوق.
ومن منظور الاقتصاد الكلي، تُظهر تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن تسريع وتيرة تبنّي الذكاء الاصطناعي، إلى جانب تنفيذ إصلاحات هيكلية فعّالة، يمكن أن يرفع النمو الاقتصادي طويل الأمد بنحو 0.4 نقطة مئوية سنويًا في اقتصادات مجموعة العشرين المتقدمة، و0.3 نقطة في اقتصاداتها الصاعدة حتى منتصف القرن. غير أن هذه المكاسب تبقى مشروطة بقدرة الحكومات على إدارة التحول بكفاءة، في ظل المخاطر الناجمة عن تباطؤ الإنتاجية وارتفاع الحواجز التجارية عالميًا.
أما على الجانب الاجتماعي للتحول الرقمي، فيُبرز تقرير التنمية البشرية لعام 2025 فجوةً واضحة في تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي بين الجنسين؛ إذ تُظهر البيانات أن نحو 37% من النساء يستخدمن هذه التقنيات، مقابل 41% من الرجال. ويُرجع التقرير هذا التفاوت إلى الأعباء الأسرية غير المدفوعة التي تحدّ من قدرة النساء على اكتساب مهارات تكنولوجيا المعلومات والمشاركة في الاقتصاد الرقمي. ويحذر التقرير من أن استمرار هذه الفجوة قد يؤدي إلى اتساع فجوة الفرص الاقتصادية والمعرفية بين الجنسين، ما لم تُعالَج جذور عدم المساواة في توزيع الوقت والرعاية والمهارات الرقمية.
الاقتصاد القادم هو اقتصاد المهارات والمعرفة. من ينتصر ليس صاحب العمالة الأرخص، بل من يملك منظومة مرنة للتعلّم على مدى الحياة، وتنافسية تنظيمية تسمح للشركات باعتماد التقنيات بسرعة مع حماية العمل اللائق. أو بتعبير موجز:الذكاء الاصطناعي ليس أزمة تكنولوجية، بل اختبار لقدرة الدول على التعلّم السريع.
ملامح العقد القادم (2026–2030): بين النمو المنخفض و التحول الذكي
مع انقضاء النصف الأول من عقد العشرينيات ودخول العالم النصف الثاني منه، تتفق معظم التقارير الدولية — من صندوق النقد الدولي (IMF)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، والبنك الدولي — على أن العالم يدخل مرحلة جديدة يمكن وصفها بالنمو المنخفض المستقر. فقد تراجعت وتيرة النمو الهيكلي نتيجة تباطؤ الإنتاجية، وشيخوخة السكان في الاقتصادات المتقدمة، وتحوّل مسارات التجارة العالمية. ومع ذلك، فإن النظام الاقتصادي العالمي لا يتجه نحو الركود الشامل، بل نحو إعادة توازن جغرافية واقتصادية عميقة.
محور النمو يتحرك شرقًا وجنوبًا
تُظهر التقديرات أن أكثر من 70% من النمو العالمي بين 2026 و2030 سيأتي من آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.
الهند، على سبيل المثال، مرشحة لتصبح ثالث أكبر اقتصاد عالمي بحلول 2030، بينما تبرز اقتصادات الشرق الأوسط — ومن ضمنها الأردن والسعودية والإمارات — كمحاور إنتاج وتجارة جديدة في ظل إعادة تموضع سلاسل الإمداد بين الشرق والغرب.
كما تشير توقعات Global Economic Prospects 2025 إلى أن الصين ستفقد بعض زخمها الصناعي لصالح اقتصادات إقليمية أصغر مثل فيتنام وإندونيسيا وبنغلادش، مدفوعة بتحول الاستثمار نحو “التصنيع القريب من الأسواق ” (Nearshoring).
التحول الأخضر والسباق على المعادن الحيوية
يدخل العالم نصف العقد القادم في سباق جديد حول الطاقة النظيفة والمعادن الاستراتيجية.
فبحلول 2030، من المتوقع أن تتجاوز الاستثمارات في الطاقة المتجددة 2 تريليون دولار سنويًا، أي أكثر من ضعف ما كانت عليه قبل عقد. كما سيزداد الطلب العالمي على النحاس والليثيوم والنيكل بأكثر من 40%، ما يجعل الدول الغنية بهذه الموارد (من أميركا اللاتينية إلى أفريقيا) بؤر تنافس جيوسياسي واقتصادي.
لكن هذا التحول سيأتي أيضًا بتحديات تمويلية؛ إذ ستحتاج الدول النامية إلى ما لا يقل عن 2.4 تريليون دولار سنويًا لتمويل التحول الأخضر، وفق تقديرات UNDP وWorld Bank .
“العولمة الذكية” بدل العولمة الكلاسيكية
لم تعد العولمة بمعناها التقليدي — انفتاح الأسواق وتدفق رأس المال بحرية — ممكنة في عالم منقسم سياسيًا وتكنولوجيًا. لكن نموذجًا جديدًا يتشكل اليوم: “العولمة الذكية”، التي تقوم على التكامل الإقليمي وسلاسل القيمة القائمة على التكنولوجيا، حيث تتقاطع الصناعة الرقمية بالطاقة النظيفة، ويتحول الذكاء الاصطناعي إلى أداة لتقليص المسافات بدلًا من توسعتها.
تصف منظمة التجارة العالمية (WTO Trade Outlook 2025) هذه المرحلة بأنها انتقال من “اقتصاد الكميات” إلى “اقتصاد الكفاءات” — أي أن النمو لن يعتمد على زيادة حجم التجارة فقط، بل على رفع القيمة المضافة عبر الابتكار والمعرفة.
الاقتصاد العالمي في نهاية العقد: ملامح الصورة
ومع اقتراب نهاية هذا العقد، تتبلور ملامح الاقتصاد العالمي في صورة أكثر وضوحًا؛ إذ من المرجّح أن يستقر معدل النمو العالمي بين 2.5% و3% سنويًا، مدعومًا بتعافٍ تدريجي في الإنتاجية وتوسع محدود في الاستثمارات. في المقابل، يُتوقع أن يحافظ التضخم على مستويات منخفضة ومستقرة تتراوح بين 2% و3%، مع تراجع تدريجي في معدلات الفائدة بعد عام 2026 مع انحسار التشدد النقدي في الاقتصادات الكبرى. كما تشير التقديرات إلى ارتفاع نصيب الاقتصاد الأخضر إلى نحو 10% من الناتج العالمي بحلول نهاية العقد، مدفوعًا بتسارع التحول نحو الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة. وفي الوقت ذاته، يتواصل تحول مركز الثقل الاقتصادي نحو آسيا والشرق الأوسط، اللذين يبرزان كمحورين رئيسيين للنمو والإنتاج، فيما تترسخ هيمنة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على أكثر من نصف القيمة المضافة الصناعية، لتشكل هذه العناصر مجتمعة ملامح عقدٍ جديد من “النمو البطيء والذكي”.
الاقتصاد العالمي في طريقه نحو عقدٍ من “النمو البطيء والذكي” — بطيء في وتيرته، لكنه عميق في تحولاته. ومن يقرأ المستقبل بدقة سيجد أن الفرص لا تقل عن المخاطر، شرط أن تُدار السياسة الاقتصادية بعينٍ على التحول لا على الحنين إلى الماضي.
الاقتصاد الأردني: من التأثّر إلى التكيّف وصناعة الفرص
رغم عقدٍ عالميٍّ مضطرب، تمكن الاقتصاد الأردني من الحفاظ على استقرارٍ اقتصادي كلي قوي بفضل السياسة النقدية والمالية المنضبطة، ما أسهم في تحقيق تعافٍ تدريجي في النمو مع تضخم منخفض واحتياطيات أجنبية قياسية. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، تسارع معدل النمو في النصف الأول من عام 2025 إلى نحو 2.7% مدفوعًا بتوسعٍ واسع في النشاط الاقتصادي، فيما بقي التضخم ضمن مستويات منخفضة تتراوح بين 1.7% و1.9% حتى سبتمبر 2025 بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة والبنك المركزي الأردني.
أما معدل البطالة فقد بلغ نحو 21.3% خلال الربعين الأول والثاني من العام نفسه مسجّلًا انخفاضًا طفيفًا على أساس سنوي. وفي المقابل، سجّلت الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي مستوى تاريخيًا بلغ قرابة 23.9 مليار دولار بنهاية سبتمبر 2025، وهو ما يكفي لتغطية نحو 9.1 أشهر من الواردات — وهي نسبة تعكس متانة المركز النقدي الأردني. ويؤكد صندوق النقد الدولي أن الأردن يتمتع بتضخم منخفض واحتياطيات قوية، إلى جانب تقدمٍ ملموس في الإصلاحات والضبط المالي.
وبناءً على ذلك، يمكن تلخيص معادلة الاقتصاد الأردني اليوم بأنها تقوم على نمو متواضع، وتضخم منخفض، واحتياطي قوي — وهي قاعدة صلبة تمكّنه من الانتقال من مرحلة التكيّف إلى مرحلة اقتناص الفرص.
كيف تأثّر الأردن بعقد الأزمات؟
تأثّر الاقتصاد الأردني بعقد الأزمات العالمية خلال الأعوام الماضية، شأنه شأن معظم الاقتصادات النامية، إلا أن قدرته على التكيّف كانت لافتة. فقد أدت الارتفاعات الحادة في أسعار الطاقة والغذاء إلى زيادة كلفة الاستيراد والضغط على الميزان الجاري، غير أن الأثر التضخمي بقي محدودًا نسبيًا مقارنة بدول المنطقة، بفضل السياسات النقدية المتحفظة التي انتهجها البنك المركزي وضبطه الدقيق لمستوى السيولة وأسعار الفائدة، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي.
وفي الوقت نفسه، أسهم تباطؤ التجارة العالمية وتحول سلاسل الإمداد في إعادة رسم تدفقات السلع والخدمات والأنشطة الصناعية في المنطقة، الأمر الذي يفتح أمام الأردن نوافذ لوجستية وصناعية جديدة على المدى المتوسط، انسجامًا مع الاتجاهات التي رصدتها منظمتا التجارة العالمية (WTO) والأونكتاد (UNCTAD) في تقاريرهما حول إعادة التموضع الجغرافي لسلاسل القيمة العالمية.
ومع دخول النصف الثاني من عقد العشرينيات، تبرز أمام الأردن فرص واعدة في خمسة مسارات عملية يمكن أن تشكّل مرتكزات جديدة للنمو خلال حقبة 2026–2030.
أولاً – اللوجستيات العابرة والإسناد الإقليمي:
تمثل التحولات الجارية في الملاحة الإقليمية فرصة للأردن لتطوير خدماته اللوجستية من خلال تحويل اضطرابات النقل البحري إلى ميزة تنافسية. ويشمل ذلك تسريع عمليات التخليص الجمركي، وتفعيل الممرّات البرّية–البحرية عبر العقبة، وإنشاء مستودعات مبردة وخدمات قيمة مضافة تشمل التجميع والفحص الفني. ويستهدف هذا المسار مضاعفة طاقة المناولة ذات القيمة المضافة بحلول عام 2030، بما يعزز موقع الأردن كمركز عبور إقليمي رئيسي.
ثانيًا – الأدوية والتجهيزات الطبية:
يمكن للأردن توظيف سمعته المتميزة في الصناعات الدوائية للاندماج أعمق في سلاسل التوريد الأوروبية والإقليمية من خلال عقود التصنيع التعاقدي (CDMO) وتطبيق معايير الجودة الأوروبية (GMP/EU) ، ويستهدف هذا المسار زيادة صادرات الصناعات الدوائية والخدمات المرتبطة بها بنسبة 50% حتى عام 2030، بما يتسق مع الاتجاهات العالمية في سلاسل القيمة الطبية التي تركز على الإنتاج الإقليمي الموثوق.
ثالثًا – الكيميائيات والأسمدة الخضراء:
يشكّل قطاع الفوسفات والبوتاس قاعدة صناعية يمكن تعميقها عبر التحول إلى منتجات كيميائية ذات قيمة مضافة أعلى موجهة للأسواق الإفريقية والآسيوية. ويرتبط هذا التوجه بمشروعات الطاقة المتجددة لتقليل البصمة الكربونية وتعزيز القدرة التنافسية. ويستهدف الأردن ضمن هذا المسار رفع حصة المشتقات المتخصصة من إجمالي الصادرات الكيماوية إلى ثلث السلة التصديرية بحلول 2030.
رابعًا – الخدمات الرقمية العابرة للحدود:
نظرًا لأن الرسوم الجمركية لا تؤثر على الخدمات كما تؤثر على السلع، فإن الاقتصاد الرقمي الأردني يمتلك فرصة لتعزيز موقعه من خلال الاستثمار في مواهب البرمجة وتوسيع خدمات التعهيد الخارجي (Outsourcing) — كخدمات مراكز الاتصال، والدعم التقني، وتطوير البرمجيات، والتعليم والصحة الرقمية — الموجهة للأسواق الخليجية والأوروبية، ويُتوقّع أن يسهم هذا المسار في خلق ما بين 25 إلى 30 ألف وظيفة رقمية جديدة خلال خمس سنوات، بدعم من حوافز تشغيلية وبرامج ربط مباشر مع الشركات الإقليمية الكبرى.
خامسًا – الطاقة المتجددة وسلاسل معدات الهيدروجين والتخزين:
في ظل التوجه العالمي نحو الاقتصاد الأخضر، يستطيع الأردن جذب شراكات صناعية لتجميع معدات التحليل الكهربائي والتخزين للاستخدام المحلي والإقليمي، مستفيدًا من موقعه الاستراتيجي للربط بين السعودية ومصر والعراق. ويهدف هذا المسار إلى توطين جزء من سلسلة توريد المعدات والخدمات ورفع حصة الطاقة المتجددة في الاستهلاك النهائي خلال السنوات القادمة.
سادسًا – الاستثمار في النحاس والمعادن الاستراتيجية:
ومع توقعات ارتفاع أسعار النحاس خلال الأعوام المقبلة نتيجة الطلب العالمي المتزايد على المعادن المستخدمة في التحول نحو الطاقة النظيفة والتقنيات الخضراء، تبرز أمام الأردن فرصة تاريخية لتعزيز مكانته كمصدر إقليمي لهذه الموارد. فقد وقّعت الحكومة الأردنية مؤخرًا اتفاقية للتنقيب عن النحاس في مناطق جديدة من جنوب المملكة، وهي خطوة تمهّد لتأسيس قطاع تعدين عالي القيمة المضافة يسهم في تحفيز الاستثمار الأجنبي وخلق فرص عمل نوعية، إلى جانب رفد الميزان التجاري بسلع تصديرية استراتيجية. وفي ضوء التحولات العالمية نحو الصناعات منخفضة الكربون، يُتوقّع أن يُصبح النحاس أحد أهم الأصول الإنتاجية للأردن خلال النصف الثاني من العقد، بما يعزّز قدرته على الجمع بين التنمية الخضراء والنمو الصناعي في آنٍ واحد.
سابعًا – الزراعة والصناعات الغذائية والأمن الغذائي
يُعدّ قطاع الزراعة والصناعات الغذائية أحد المحركات الأساسية للنمو المستدام في الأردن، خاصة في ظل التحولات المناخية الإقليمية وتزايد الطلب على الأمن الغذائي. فقد أصبحت الزراعة الحديثة، القائمة على التقنيات الذكية وكفاءة استخدام المياه والطاقة، من أولويات “رؤية التحديث الاقتصادي” ومحاورها الأساسية ضمن مسار “الزراعة الذكية عالية القيمة”. وتمتلك المملكة قاعدة متميزة في إنتاج الخضروات والفواكه عالية الجودة، إضافة إلى قطاع تصنيع غذائي قادر على التحول نحو منتجات ذات قيمة مضافة موجهة للأسواق الخليجية والأوروبية. ومن شأن الاستثمار في “مشتقات الأغذية” — مثل الأغذية المجففة، والمعلّبة، والمصنّعة للصناعات الفندقية والطيران — أن يرفع مساهمة القطاع الزراعي والغذائي في الناتج المحلي الإجمالي، ويعزز الصادرات ويخلق فرص عمل في المناطق الريفية. كما يشكّل ربط الزراعة بالطاقة الشمسية والتحلية ومراكز التعبئة الحديثة مسارًا واعدًا لتعظيم الجدوى الاقتصادية وتقليل الفاقد الغذائي.
ثامنًا – السياحة والضيافة
رغم أن التركيز الرئيس في العقد المقبل ينصب على القطاعات الإنتاجية والرقمية، إلا أن السياحة تظل من الأعمدة التقليدية التي تشكّل مصدرًا مستقرًا للنقد الأجنبي وفرص العمل. ومع تعافي السياحة العالمية تدريجيًا بعد الجائحة، وعودة حركة الطيران منخفض الكلفة إلى النمو، يمتلك الأردن فرصة لتحديث قطاعه السياحي عبر التحول من السياحة الكمية إلى السياحة النوعية عالية القيمة. ويشمل ذلك الاستثمار في السياحة العلاجية والتعليمية والدينية والبيئية، وربطها بمنصات رقمية للتسويق والخدمات الذكية، بما يعزز تجربة السائح ويزيد من مدة إقامته وإنفاقه. كما أن تطوير البنية التحتية في العقبة والبحر الميت والبتراء، إلى جانب فتح مسارات سياحية جديدة في الشمال والبادية، يمكن أن يضاعف إيرادات القطاع ويخلق منظومة تكاملية بين السياحة، والثقافة، والحرف التراثية. ويظل التحدي الأكبر هو الانتقال من الاعتماد على الموسمية إلى إدارة متكاملة للوجهات تضمن استدامة العوائد على مدار العام.
تاسعًا – المياه والموارد الطبيعية
يُواجه الأردن أحد أعلى مستويات الشحّ المائي في العالم، ما يجعل إدارة الموارد المائية وتقنيات المعالجة والتحلية محورًا استراتيجيًا للتنمية الاقتصادية. ومع تسارع الابتكارات في مجالات تحلية المياه بالطاقة المتجددة وإعادة استخدام المياه المعالجة في الزراعة والصناعة، يمكن للمملكة أن تتحول إلى نموذج إقليمي في الاقتصاد المائي المستدام. ويتيح الاستثمار في حلول المياه الذكية — من العدادات الرقمية إلى أنظمة الريّ الدقيقة — فرصًا أمام الشركات المحلية الناشئة لتقديم خدمات تقنية ذات قيمة مضافة داخل الأردن وخارجه. كما يشكل مشروع “الناقل الوطني لتحلية مياه العقبة” خطوة جوهرية في تأمين مصادر مياه مستدامة تدعم النمو الصناعي والزراعي، وتعزز الأمن المائي الوطني. إن دمج قطاع المياه ضمن منظومة التحول الأخضر والاقتصاد الدائري يمثل استثمارًا طويل الأمد في أحد أكثر الموارد ندرة وأهمية للأمن الوطني والاقتصادي على حد سواء.
ما الذي يلزم لتحويل الفرص إلى وظائف ودخل أوسع؟ (خريطة سياسات مختصرة)
في ضوء الفرص المتاحة أمام الأردن خلال النصف الثاني من عقد العشرينيات، يبقى السؤال الأهم: ما الذي يلزم لتحويل هذه الفرص إلى وظائف ودخل أوسع؟ يتطلب ذلك خريطة سياسات اقتصادية متكاملة تجمع بين التحوّط الماكروي والاستثمار في رأس المال البشري والقدرة التنافسية. فعلى الصعيد الكلي، يجب الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي من خلال استمرار استهداف معدلات تضخّم منخفضة، وإدارة الدين العام بحكمة، وحماية الاحتياطيات الأجنبية بوصفها عناصر ثقة أساسية لجذب التمويل والاستثمار الخاص.
وفي سوق العمل، تبرز الحاجة إلى تشغيل ذكي موجّه بالطلب عبر توسيع برامج إعادة التأهيل المهاري السريعة (من 12 إلى 24 أسبوعًا) في مجالات البرمجة، وسلاسل الإمداد، والصيانة الصناعية، والخدمات الدوائية، مع تحفيز القطاع الخاص على المشاركة من خلال شراء التدريب مقابل التوظيف الفعلي، انسجامًا مع تحذيرات منظمة العمل الدولية بشأن فجوة “العمل اللائق” والمهارات.
كما يتعين تعميق سياسة المنشأ والاتفاقات التجارية لتعظيم الاستفادة من تراكم المنشأ مع الشركاء الإقليميين والأوروبيين وربط الصناعات الأردنية بسلاسل إمداد جديدة في ظل التحول نحو الإقليمية. وفي جانب الاستثمار، يجب تبني حوافز نوعية لا كمية تُمنح بناءً على القيمة المضافة المحلية ونقل المعرفة وتصدير الخدمات، لا على حجم رأس المال فقط، مع تسريع إجراءات الترخيص للمشاريع ذات الروابط الأمامية والخلفية. ولتمويل النمو، ينبغي تطوير أدوات ائتمان ميسّرة موجهة للمصدرين الجدد وشركات الخدمات الرقمية، إلى جانب خطوط تمويل خضراء لدعم مشروعات الكفاءة الطاقية والتحول المستدام.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن العدالة الاجتماعية تمثل شرطًا للنمو المستدام، ما يستدعي توسيع شبكات الأمان الذكية المربوطة بالتشغيل والتدريب لمعالجة التفاوتات التي تشير إليها تقارير البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. يدخل الأردن النصف الثاني من هذا العقد على قاعدة من الاستقرار النقدي والمالي واحتياطيات قوية وتضخّم منخفض — وهي عملة نادرة في عالم مضطرب.
ويبقى التحدي التالي ليس الصمود فحسب، بل التقدّم: نقل الثقل من الاستيراد إلى التصنيع والخدمات المصدّرة، ومن التوظيف الكمي إلى وظائف مهارية لائقة تقلّص البطالة وتحدّ من التفاوت. الفرصة واضحة: التموضع الذكي وسط عولمة إقليمية جديدة، ومن يسبق اليوم يحجز حصته من اقتصاد عام 2030.
في الختام، قد لا يكون العقد القادم عقدَ الازدهار السريع، لكنه بالتأكيد عقد التحول الذكي. ستربح الدول التي تستثمر في المعرفة وتبني قدراتها الإنتاجية، وتخسر من تراهن على الزمن. الاقتصاد الأردني يمتلك اليوم فرصة نادرة ليكون جزءًا من هذا التحول، لا متفرجًا عليه.
قائمة المراجع: References
Central Bank of Jordan. (2025). Monthly Statistical Bulletin (September 2025). Amman: CBJ.
Chancel, L., Piketty, T., Saez, E., & Zucman, G. (2025). World Inequality Report 2025. Paris: World Inequality Lab.
Department of Statistics (Jordan). (2025). Quarterly Economic Indicators (Q2 2025). Amman: DOS.
International Labour Organization. (2025). World Employment and Social Outlook (WESO) Update: May 2025. Geneva: ILO.
International Monetary Fund. (2024). Regional Economic Outlook: Middle East and Central Asia. Washington, DC: IMF.
International Monetary Fund. (2025). World Economic Outlook: June 2025. Washington, DC: IMF.
Organisation for Economic Co-operation and Development. (2025). OECD Economic Outlook (November 2025). Paris: OECD Publishing.
United Nations Conference on Trade and Development. (2024). Review of Maritime Transport 2024. Geneva: UNCTAD.
United Nations Conference on Trade and Development. (2025). Trade and Development Report 2025. Geneva: UNCTAD.
United Nations Development Programme. (2025). Human Development Report 2025. New York: UNDP.
World Bank Group. (2024). Poverty, Prosperity, and Planet: 2024 Report. Washington, DC: The World Bank.
World Bank Group. (2025). Global Economic Prospects: June 2025. Washington, DC: The World Bank.
World Trade Organization. (2024). World Trade Statistical Review 2024. Geneva: WTO.
World Trade Organization. (2025). Global Trade Outlook and Statistics 2025. Geneva: WTO.