facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حين تتحول الجوائز من غاية إلى وسيلة


أ.د سلطان المعاني
10-11-2025 08:20 PM

في النصف الثاني من العام الخامس والعشرين، كانت التجربة أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. فوزٌ أول وثانٍ لم يتحقق، لكن الكتاب ظلَّ هو الفائز الحقيقي. لم تكن المسألة سباقًا على المنصّة بقدر ما كانت اختبارًا للذات وهي تواجه زمن الكتابة، تقاوم فتور البدايات وتستعيد شغفها عبر الكتاب نفسه. فزت بالجائزة مرة، ولم أفز في الثانية، لكني كتبت كتابًا في كلتا الحالتين، والنتيجة واحدة: الكتاب هو الغاية التي تبقى، والجوائز تمرّ كعبور الضوء على صفحة ماء.

ليست الجائزة وسامًا يعلّق على الجدار، ولا مبلغًا ماليًا يضاف إلى رصيد، هي نداءٌ كي تبدأ من جديد. حافزٌ لأن تكتب لا لأن تتباهى، لأن تتجاوز نفسك لا لتتفوّق على غيرك. حين تتحول الجائزة إلى دافعٍ خفيٍّ يذكّرك بأنك قادر على إضافة معنى إلى الحياة، تصبح لحظة التتويج بداية لا نهاية، وتصبح الكتابة فعل استمرارٍ في وجه العدم.

لقد كتبت في موضوعين مختلفين، متقاربين في روحهما النقدية، متباعدين في حقولهما. وكان هذا التنوع هو الجائزة الثالثة غير المعلنة: أن ترى الفكر وهو يتمدّد في اتجاهات جديدة دون أن يفقد اتزانه. فكل حقلٍ يفتح لك نافذة على الآخر، وكل تجربةٍ تُعمّق وعيك بأن الإبداع لا ينتمي إلا إلى الحرية.

أما أن تختارك مؤسسة ثقافية شخصية العام، فذلك شرفٌ لا يكتمل إلا بقدر ما تكون فيه ممثلًا لغيرك من الكتّاب، لا لنفسك وحدك. لأن التكريم في جوهره مسؤولية، والوقوف على المنصّة يعني أن تكون صوتًا لجيلٍ يكتب كي يضيء، لا كي يُصفّق له الآخرون.

الجوائز لا تصنع الكاتب، لكنها تُنضج فيه رغبة الاستمرار. هي تلك الومضة التي تذكّرك بأنك على الطريق، لكنها لا تختصر الطريق ذاته. إنّ من يكتب وهو مشغول بالنتائج يفقد متعة البحث عن المعنى، ومن يكتب وهو مخلصٌ لما يراه حقًا يخلق أثرًا لا يزول. الجائزة لحظة من لحظات العبور إلى أفقٍ أوسع، حيث الكتاب هو البطل الوحيد الذي لا يخون صاحبه.

فلنكتب لأنفسنا أولًا، لأن الكتابة حياة أخرى نعيشها بالحبر، لا بالمجد العابر. الجوائز تأتي وتذهب، أما الكلمة فتبقى، شاهدةً على أن الإنسان لم يكفّ يومًا عن السعي ليعبّر، ليفهم، ليترك أثرًا يليق بما في داخله من نور.

اكتب كأنك تبدأ العالم من جديد، كل نصّ هو ميلاد، وكل جملة هي نَفَس أوّل في حياةٍ أخرى. الكتابة لا تبدأ من الورق، تبدأ من لحظة الشكّ التي تدفعك إلى اكتشاف ذاتك. حين تكتب كأنك تبدأ العالم من جديد، لا تكرّر الآخرين، وإنما تُعيد تعريف ما يُقال وما يُرى. كل سطرٍ هو خطوة في طريقٍ غير معبّد، وكل فكرةٍ هي حجر يُضاف إلى معمارك الداخلي. إنّ الكاتب الحقيقي يكتب ليخلق فضاءً جديدًا يتنفّس فيه المعنى.

لا تبحث عن الضوء، كن الضوء، الجوائز لا تمنح البريق، هي تعكسه فقط. إن لم يكن فيك وهجُ الفكر، فلن تصنعه أي لجنة تحكيم. الكاتب يُضيء حين يصدق، حين يكتب من جُرحٍ يعرفه، ومن حلمٍ لم يفقد إيمانه به. لا تنتظر أن يأتي الاعتراف من الخارج، فاعترافك بذاتك هو البداية الحقيقية لكلّ مجد. الضوء يسكن من يرى الحقيقة ويجرؤ على قولها، حتى لو لم يصفّق أحد.

اكتب لتنجو، لا لتُصفّق لك الجموع، في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات، تبقى الكتابة فعلَ نجاة. هي الطريق إلى أن تظلّ إنسانًا حين يبهت كلّ شيء. لا تكتب لتُرضي، اكتب لتُبقي أثرًا يُشبهك. كل كتابٍ هو صرخة هادئة ضدّ الفناء، وكل جائزة تأتي لاحقًا ليست سوى ظلٍّ من نور ما كتبت. الكتابة تكافئك بالسكينة التي تمنحها لك حين تعرف أنك قلت كلمتك كاملة، دون نقصانٍ ولا تردّد.

هكذا تصير الجوائز مرآةً لما فيك، لا سببًا لوجودك. تكتب لأنك لا تستطيع التوقف، لأنك تعرف أن الكلمة حين تخرج منك تصبح حياة أخرى، تمشي إلى العالم وتقول عنك ما لم تستطع أنت قوله.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :