facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الجيل الرقمي الأول


د. صالح سليم الحموري
12-11-2025 11:11 PM

كان المساء هادئًا على غير العادة، جلستُ أمام التلفاز أتنقّل بين القنوات بحثًا عن برنامج حواري يشبه ما كنا نتابعه قبل سنوات، حين كان التلفزيون نافذتنا الوحيدة على العالم. لكني أدركت سريعًا أن الجهاز العتيق أمامي فقد جمهوره وسحره القديم. التفتُّ إلى ابنتي، فوجدتها غارقة في عالم آخر، شاشة صغيرة بين يديها وسماعات في أذنيها، تضحك أحيانًا على مقطع، وتتأمل أحيانًا أخرى في فيديو يلخّص كتابًا في دقيقة. عندها فهمت أنني أعيش مع ممثلةٍ صادقةٍ للجيل الرقمي الأول.

هذا الجيل لا ينتظر نشرات الأخبار في الثامنة، ولا البرامج الحوارية في منتصف الليل. إنه جيل يعيش الحدث لحظة وقوعه، يصنع أخباره بنفسه، ويتفاعل معها عبر تغريدة أو مقطع قصير. لم يعد التلفزيون نافذة على العالم، بل تحوّل كل هاتف ذكي إلى محطة بثّ شخصية، وكل مستخدم إلى ناشرٍ ومحرّرٍ ومخرجٍ في آن واحد.

لا يعني ذلك أن الجيل الرقمي يفتقر إلى الثقافة، بل إنه يغوص في أنهارٍ لا تنتهي من المعرفة الرقمية. ينتقل من دورة في الذكاء الاصطناعي إلى وثائقي عن المناخ، مرورًا بمحتوى يلخّص كتابًا في نصف دقيقة. إنه جيل يتعلّم بطريقة مختلفة: بصرية، سريعة، وتفاعلية، يستبدل القلم بلوحة المفاتيح، والصحيفة الورقية بشاشة مضيئة.

لكنّ هذا التحوّل لم يخلُ من مفارقات. فبينما يعيش الجيل الرقمي حرية الوصول والمعرفة، فإنه يواجه خطر الانغلاق داخل فقاعة رقمية لا يرى فيها إلا ما يشبهه. هو جيل أكثر وعيًا، لكنه أقل اتفاقًا على رواية واحدة للعالم، يعيش بين زخمٍ من المعلومات وضجيجٍ من الآراء يصعب فيه التمييز بين الحقيقة والانطباع.

على الحكومات وصنّاع القرار أن يدركوا أن هذا الجيل ليس عابرًا، بل هو مستقبل المجتمعات. لا بد من إعادة تصميم التعليم والإعلام والسياسات الرقمية لتناسب لغته وطبيعة تفاعله. فالتعليم يجب أن يكون مرنًا وتفاعليًا، والإعلام حواريًا لا تلقينيًا، والتشريعات الرقمية ذكية ومتوازنة تحفظ حرية التعبير وتحمي الوعي العام.

الجيل الرقمي الأول "لا يشاهد التلفزيون، ولا يسمع الإذاعات، ولا يقرأ الجرائد الورقية"، لكنه يكتب منشورًا يراه الملايين، ويسجّل بودكاستًا يُسمَع في القارات، وينتج محتوى يتجاوز أثر القنوات الفضائية. إنه جيل يصنع واقعه بيديه، ويعيد تعريف معنى أن تكون إنسانًا في عصرٍ تحكمه "الشاشة والذكاء الاصطناعي."

لذلك، لا تحاولوا "تطوير التلفزيون أو تحديث الإذاعة أو تجميل الجريدة"، فالمسألة لم تعد تحسين الوسيلة، بل إعادة اختراعها من الأساس، الحل ليس في زيادة البث أو طباعة صفحاتٍ أكثر، بل في الإصغاء لهذا الجيل: ماذا يريد أن يرى؟ ماذا يحب أن يسمع؟ وكيف يختار أن يقرأ؟..

إنهم لم يغيّروا فقط عادات المشاهدة، بل غيّروا قواعد اللعبة ذاتها، حتى في السياسة والانتخابات والوعي الجمعي. يكفي أن نذكر كيف تحوّل منشورٌ أو حملة رقمية في نيويورك إلى قوةٍ حقيقية حرّكت الناخبين وأعادت رسم المشهد السياسي.

الجيل الرقمي الأول لا ينتظرنا لنتحدث إليه... بل ينتظر من يفهم لغته ويتحدث معه.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :