إن سؤال (إنتا من وين؟) ليس مجرد فضول؛ بل علامة على عقلية متخلفة لم تلتحق بالحضارة بعد، وهي تحصر قيمة الإنسان في أصله أو نسبه، وتحدد طبيعة التعامل معه وفق هذه النظرة البائسة، المثيرة للشفقة على السائل. قبل أيام تم انتخاب زهران ممداني عمدة لمدينة نيويورك، هندي–أوغندي، حصل على الجنسية الأميركية قبل سبع سنوات فقط. لم يسأله أحد عن أصله وفصله، ولم يضطر هو إلى سرد قصة وجود عائلته في البلاد قبل تأسيس الدولة مثلا، ولم يسأله القاضي (إنتا من وين؟) عند ممارسة عمله وصلاحياته؛ لأن القانون هناك يقيم البرنامج والكفاءة، ولا ينشغل بشجرة العائلة. المفارقة، هناك، واضحة: شاب هندي–أوغندي عمدة واحدة من أعظم المدن في العالم، ولا أحد يفتح فمه ليسأل عن جذوره وجدوده!
الدرس العالمي بليغ وواضح؛ حيث مواطنة العقد الاجتماعي تتقدم على الأصول العرقية. الولايات المتحدة شهدت أن شخصيات مثل مادلين أولبرايت وهنري كيسنجر ونيكي هيلي وكامالا هاريس ورشيدة طليب تولّوا مناصب عليا رغم أصولهم المتنوعة.
في بريطانيا، انتُخب ريشي سوناك رئيس وزراء، وصادق خان عمدة لندن، بينما شغلت بريتي باتل وسويلا برافرمان وزارات مركزية، وجميعهم مواطنون من خلفيات مهاجرة، وكذلك تولى أحمد أبو طالب رئاسة مدينة روتردام في هولندا، ومكنت كندا وفنلندا للمهاجرين مناصب وزارية ورئاسة حكومات محلية، مثل أحمد حسين وسانا مارين.
ثماني دول عربية َهي الأردن وتونس والجزائر والمغرب، ومصر وسوريا ولبنان والإمارات مجموع اقتصادها نحو 1.47 تريليون دولار، بينما نيويورك وحدها اقتصادها يقارب 2.3 تريليون دولار. مدينة واحدة تتفوق اقتصاديا على ثماني دول، ولم تتوقف هذه المدينة العظيمة عند سؤال في غير محله يتعلق بأصل العمدة الجديد.
حين يصرّ بعض الجهلة على سؤال (إنتا من وين؟) لمواطن يمارس حقوقه الطبيعية، فهذا مؤشر على تردٍ وتخلف في الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي، ويدل على عقدة وهم بالتفوق تحتاج إلى علاج نفسي مكثف.
في الدول المتقدمة؛ يتعرض للمساءلة القانونية الصارمة، ووصمة العار الاجتماعية، كل من مارس أي شكل من التمييز العنصري أو الثقافي؛ لأن المواطنة هناك تعني الحقوق والواجبات، لا الجذور أو القبيلة ولا الأقدمية في المواطنة. كل الذين ذكرناهم ممن تولوا مناصب عليا ورفيعة، هم مجنسون أو مهاجرون أو حديثو العهد بجنسيات تلك البلاد، ولم تسمح تلك الدول لأحد بتقويض شرعيتهم بسؤال عن أصلهم وفصلهم، بل قيّمتهم الكفاءةُ والبرامج.
قد يكون سؤال (إنتا من وين؟) مقبولا في أحاديث الشوارع والمقاهي على سبيل المزاح، أو من الممكن تبريره، أحيانا، كوسيلة للضحك بين أصدقاء تجمعهم أمراض الكآبة المزمنة نتيجة الفقر والبطالة، لكنه في العمل العام والوظائف الرسمية سؤال مرفوض تماما وسلبي جدا وخطير؛ لأنه حين يُطرح هناك، يخلط بين الأصل والجنسية، وبين الكفاءة الشخصية والأفضلية غير الدستورية، ويضع عائقا أمام ممارسة المواطنة الحقيقية.
المواطنة ليست شهادة نسب ولا شجرة عائلة ولا امتيازا وراثيا، بل هي التزام قانوني وممارسة مسؤولة. وأية محاولة لتقييد الحقوق أو تقييم القدرات بناء على الأصل تُعيق المجتمع عن التقدم ولو قليلا، وتحجب عنه مبادىء العدالة الاجتماعية.