تاجر البندقية… وشيلوك البنك الدولي
م. عبدالفتاح الدرادكة
16-11-2025 06:10 PM
تُعد رواية “تاجر البندقية” لشكسبير واحدة من أكثر أعماله رمزية وإسقاطًا على واقع الصراع بين رأس المال والأخلاق، بين الطمع الإنساني والعدالة، وبين السيطرة الاقتصادية والحرية الإنسانية. في هذه الرواية يقف شيلوك اليهودي، المرابي القاسي، في مواجهة أنطونيو التاجر، حيث يشترط الأول أن يحصل على رطل من لحم أنطونيو إذا عجز عن سداد دينه، وهو شرط قاسٍ لا يعبّر عن حاجة إلى المال بقدر ما يكشف عن نزعة انتقامية ورغبة في السيطرة والتحكم بمصير الآخر.
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم:
أليست سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تعاملها مع دول العالم الثالث صورة معاصرة لشيلوك في ثوبٍ جديد؟
فما بين رطل اللحم الذي طالب به شيلوك، ومليارات الدولارات التي تطالب بها هذه المؤسسات المالية الدولية، تقف شعوب بأكملها تنزف دمًا واقتصادًا وكرامة.
منذ نهاية الحقبة الاستعمارية التقليدية، استبدلت القوى الغربية أدواتها المباشرة بأدوات أكثر نعومة لكنها أشد قسوة، فجعلت المال هو السلاح الجديد للاستعمار. وبدل أن يحتل الجندي الأرض، يحتل الدين القرار الوطني. فالدول النامية، التي أُفرغت من أدوات الإنتاج الفاعلة بفعل الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية الغربية، أصبحت مضطرة إلى طرق أبواب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بحثًا عن ما يُسمّى بـ”الإنعاش الاقتصادي”، لتجد نفسها في النهاية تسدد رطل لحمها الاقتصادي دون أن تتوقف نزيفاتها الداخلية.
تفرض هذه المؤسسات على الدول المثقلة بالديون برامج إصلاح اقتصادي تُجمّل بشعارات التنمية والاستقرار المالي، لكنها في حقيقتها قيود اقتصادية تُكبّل إرادة الشعوب وتفرض على الحكومات سياسات تقشفية صارمة:
زيادة الضرائب، رفع الدعم، تقليص الخدمات العامة، وتوجيه الجزء الأكبر من الناتج المحلي لخدمة الدين الخارجي. وهكذا يصبح المواطن هو أنطونيو العصر الحديث، يدفع ثمن ديون لم يصنعها، وينزف من لحمه الحي كي يرضى شيلوك البنك الدولي.
أما الدم الذي حظرت بورشيا في الرواية أن يُراق، فقد أُريق فعلاً في واقعنا العربي من خلال الفقر والبطالة وتفكك البنى الاقتصادية والاجتماعية. ولم تظهر “بورشيا” التي تدافع عن الشعوب وتعيد ميزان العدالة، بل بقيت الأنظمة العربية مكبلة بسياسات الغرب ومتطلباته. والأسوأ من ذلك، أن هذه القوى لا تكتفي بمحاصرة الدول الفقيرة بالديون، بل تمنع حتى الأغنياء من إنقاذ إخوتهم.
فالأموال الخليجية المكدسة في البنوك الغربية، لو وُجهت نحو الاستثمار في العالم العربي، لأمكن إحياء اقتصاداتٍ كاملة، ولتحولت السودان إلى سلة غذاء للعرب بدل أن تُغرق في سلة الصراعات. ولكنّ السياسة الغربية ترفض هذا النهوض، لأنها تدرك أن اقتصادًا عربيًا متكاملًا يعني استقلالًا سياسيًا وفكريًا يهدد مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني في المنطقة.
إنّ ما يجري اليوم هو إعادة إنتاجٍ حديثة لرواية “تاجر البندقية”، لكن على مسرحٍ عالمي.
فشيلوك لم يعد تاجرًا يهوديًا في البندقية، بل أصبح مؤسسة مالية كبرى تفرض شروطها على الدول الفقيرة باسم “العدالة الاقتصادية” و”الإصلاح الهيكلي”. وأنطونيو لم يعد فردًا، بل صار شعوبًا بأكملها، وبدل رطل اللحم، هناك رطل من السيادة، ورطل من الكرامة، ورطل من الحرية تُقتطع يوميًا تحت مسمى الالتزام بالبرامج الإصلاحية.
ويبقى الأمل في أن تُولد “بورشيا” جديدة — رمزية كانت أو سياسية — تدافع عن هذه الشعوب، وتعيد التوازن بين حاجتها إلى المال وحقها في الحياة.
فما لم تستفق هذه الأمم وتتحرر من قبضة الدَّين وأوهام الإصلاح المفروض، ستظل تقدم رطلًا بعد رطلٍ من لحمها الحي، حتى تُصبح بلا جسدٍ اقتصادي ولا روحٍ وطنية.
والله من وراء القصد