جدلية "العقد الإلكتروني" للمدارس الخاصة .. قراءة تحليلية
فيصل تايه
18-11-2025 09:38 AM
يمر قطاع التعليم الخاص في الأردن اليوم بمنعطف دقيق وحاسم ، حيث أصبح "العقد الإلكتروني الموحد" محور نقاش متجدد يجمع بين المدارس الخاصة واللجنة المؤقتة للعاملين ، في ظل متابعة دقيقة من وزارة التربية والتعليم، الجهة المسؤولة عن ضبط معايير العمل وضمان استقرار العملية التعليمية ، فما يميز هذا النقاش أنه لا يقوم على صدام أو جدل انفعالي ، بل يعكس محاولة جادة لإعادة ترتيب العلاقة التعاقدية بين المعلمين والمدارس الخاصة، بعد سنوات من تفاوت الصيغ التعاقدية وغياب المعايير الموحدة، وهو واقع أكد الحاجة إلى أدوات واضحة وشفافة تحفظ الحقوق وتواكب التحولات الرقمية الحديثة.
لقد جاء العقد الإلكتروني بوصفه خطوة إصلاحية عميقة وجوهرية، لا يهدف إلى فرض قيود أو نزع خصوصية أي مدرسة، بل يسعى إلى وضع إطار متوازن يضمن حقوق صاحب المدرسة وحقوق المعلم على حد سواء ، فالمنصة الإلكترونية التي تم إطلاقها لضمان تنفيذ العقد تمثل أداة حديثة للتوثيق، تمنع أي تلاعب، وتمنح كل طرف مرجعية قانونية واضحة وموثوقة يمكن الرجوع إليها عند الحاجة، بما يعزز الثقة في العملية التربوية ويضبط العلاقة بين جميع الأطراف ، فالتحول من "الورقي إلى الإلكتروني" ليس مجرد تحديث شكلي، بل خطوة استشرافية تتوافق مع أفضل الممارسات الدولية، وتحقق شفافية كاملة وتضمن عدالة تطبيقية في الوقت ذاته، ما يعكس الطابع التشاركي للمنصة التي تم تطويرها بالتوافق بين وزارة التربية والتعليم، ووزارة العمل، والمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، ونقابة أصحاب المدارس الخاصة، ونقابة العاملين ، بدعم منظمة العمل الدولية، ليصبح المشروع وطنياً يحفظ مصالح الجميع ويعزز الشفافية القانونية ، حيث منحت هذه المنصة مكتسبات عملية مهمة ، اهمها زيادة مدة العقد لتصبح (١٢) شهراً بدلاً من (١٠) ، اضافة الى تطبيق نظام المصادقة الرقمية لتعزيز أمان العقود وحماية الحقوق.
ومع ذلك ، فمن الواضح ان المدارس الخاصة ليست كتلة واحدة، ولا يمكن اختزال موقفها في رأي موحد، فبعض المدارس تثير مخاوف مشروعة تتعلق بالخصوصية المالية والتشغيلية، وخصوصاً المؤسسات الصغيرة التي قد تواجه صعوبات في الالتزام ببعض البنود الموحدة ، اذ ان هذه الملاحظات تتطلب تعاملاً جاداً وواعياً، فهي تعكس واقعاً عملياً يجب أخذه بعين الاعتبار، حيث يعد احترام خصوصية المدارس جزءاً من احترام منظومة التعليم برمتها، دون أن يقلل ذلك من ضرورة ضبط معايير هذا القطاع وتنظيمه بشكل متكامل ، فقد أظهرت التجارب الأولية للمنصة أن هناك مرونة في مواعيد سريان العقود بما يراعي خصوصية المدارس ويسهل إجراءات التعيين.
في المقابل، تنظر اللجنة المؤقتة للعاملين في التعليم الخاص إلى "العقد الإلكتروني" كضرورة لحماية حقوق المعلمين، الذين يشكلون القلب النابض للعملية التعليمية وروحها الحقيقية ، فالمعلم يحتاج إلى بيئة مستقرة، وعقد واضح، وساعات عمل محددة، وضمان اجتماعي ثابت، وكلها حقوق يجب أن تصان ، ومن الطبيعي أن تدافع النقابة عن هذه الحقوق، فهي تمثل شريحة واسعة من العاملين، وتؤكد التزام الجميع بالقوانين والنظم المعتمدة، بما يعزز استقرار العملية التعليمية ويرسخ العدالة بين الأطراف كافة ، فالعقد الإلكتروني يأتي أيضاً استناداً إلى اتفاقية جماعية موثقة قانونياً بين النقابات، ما يجعل أحكامه واجبة التنفيذ ومكتسبات عمالية محمية.
وفي هذا الإطار، تظهر وزارة التربية والتعليم بصفتها الجهة التنظيمية التي تمارس صلاحياتها القانونية والتنظيمية بحزم وموضوعية، دون تعسف أو تجاوز، فهي مسؤولة عن ضبط النظام التعليمي، ومتابعة التعيينات، وتوحيد الإجراءات بما يضمن استقرار المدارس وحقوق المعلمين ، حيث ان اعتماد الوزارة للعقد الإلكتروني ابتداءً من العام الدراسي ٢٠٢٥ / ٢٠٢٦ ليس إجراءً تعسفياً ، بل يعكس حرصها على ترسيخ ممارسات إدارية حديثة وموثوقة، وضمان توازن دقيق بين مصالح المدارس وحقوق العاملين ، ومن الإنصاف التأكيد على أن هذا القرار جاء بعد نقاشات مستفيضة ولجان مشتركة مع النقابات والجهات المعنية، مما يعكس حرص الوزارة على الشراكة الحقيقية والعدل بين جميع الأطراف، في ممارسة دورها الشرعي في تنظيم القطاع بما يحقق الصالح العام ويؤمن استمرارية العملية التعليمية بأعلى مستويات النزاهة ، فالتطبيق العملي للمنصة يمنحها كافة الإجراءات ويتيح إصدار العقود يومياً بشكل منتظم، مع التاكيد ان العقود الورقية لن تقبل بعد العام الدراسي ٢٠٢٥ / ٢٠٢٦ .
نعود الى القول ان الحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أن جوهر الخلاف لا يكمن في العقد ذاته، بل في آليات تطبيقه وسرعة تفعيله والصيغ التي تراعي الجميع ، فالمدارس تطلب مرونة، والعاملون يطالبون بحماية، والوزارة تسعى إلى نظام موحد يحفظ حسن سير العملية التعليمية ، فهذه المطالب المختلفة ليست متناقضة، بل يمكن التوفيق بينها عبر حوار هادئ ومدروس، وإعادة النظر في البنود التي تحتاج إلى ضبط دقيق، والتطبيق التدريجي الذي يحقق استقرار المدارس، ويكفل العدالة للمعلمين، ويحافظ على هيبة القرارات التنظيمية دون أن تكون عبئاً على أي طرف.
وأخيراً ، لا بد من التاكيد ان "العقد الإلكتروني" ليس أزمة، بل يمثل فرصة حقيقية لإصلاح قطاع طالما انتظر إعادة تنظيم، وفرصة لإنشاء بيئة مدرسية أكثر عدلاً واستقراراً ، وفرصة لتعزيز الثقة بين المدارس والمعلمين والوزارة في الوقت ذاته ، فالمعلم يستحق الأمان الوظيفي والشفافية، والمدرسة تستحق وضوح القوانين والإطار التنظيمي، والوزارة تستحق الدعم لتنجح في مسار التحديث الذي بدأته ، فما دامت النوايا مخلصة للصالح العام، فإن الطريق نحو التوافق ليس بعيداً ، بل يحتاج فقط إلى حوار مسؤول وإدارة حكيمة وإيمان بأن التعليم أمانة جماعية لا يكتمل نجاحها إلا بتكاتف الجميع والالتزام بحقوقهم وواجباتهم.
والله ولي التوفيق