الأمن السيبراني في البحر الميت: مؤتمر يعكس طموح الأردن ويمتحن جاهزيته الاستراتيجية
صالح الشرّاب العبادي
19-11-2025 08:19 PM
انطلاق مؤتمر ومعرض التقدم والابتكار والتكنولوجيا في الأمن السيبراني C8-2025 اليوم في مركز الملك الحسين بن طلال للمؤتمرات عند شاطئ البحر الميت، ليس حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل محطة استراتيجية تكشف عن موقع الأردن في خريطة الأمن الرقمي الإقليمي. برعاية سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ينعقد المؤتمر وسط مشهد دولي بالغ التعقيد، حيث باتت الهجمات السيبرانية جزءًا من أدوات النفوذ والضغط السياسي والاقتصادي، تمامًا كما هي الدبابات والطائرات في الحروب التقليدية.
المؤتمر يجمع جهات حكومية وعسكرية وتقنية من عشرات الدول، ويقدّم منصة لاختبار جاهزية الأردن في ثلاثة مسارات: القدرة الدفاعية، بناء القدرات البشرية، والشراكات الدولية.
فالفعاليات تشمل تمارين محاكاة (سايبر دريل) لاختبار سرعة الاستجابة للهجمات، ومسابقة آرميثون التي تشارك بها فرق من 28 دولة، إضافة إلى مسابقة للقرصنة الأخلاقية، وكلها مؤشرات على انتقال الفضاء السيبراني من مرحلة التدريب النظري إلى تشكيل وحدات قتالية رقمية قادرة على التعامل مع تهديدات فعلية.
من الناحية الاستراتيجية، يختبر المؤتمر قدرة الأردن على تثبيت موقعه كمركز إقليمي للأمن السيبراني، مستفيدًا من بنية تحتية تقنية متطورة نسبيًا، وخبرة متراكمة داخل المركز الوطني للأمن السيبراني، وتعاون واسع مع مؤسسات دولية. لكن هذا الطموح يصطدم بتحدٍ مزدوج: تسارع الهجمات السيبرانية عالميًا، والنقص في الكوادر المتخصصة، وهي فجوة لا يسدّها مؤتمر واحد مهما كان حجمه، إن لم تُترجم مخرجاته إلى مشاريع تدريب وتمويل وبرامج تطوير مؤسسي.
أهمية المؤتمر أنه يتجاوز سردية “الدفاع الرقمي” التقليدية، ليطرح سؤالًا سياسيًا واقتصاديًا: كيف يبني الأردن سيادة رقمية تحمي بياناته الوطنية من التدخل الخارجي؟ وكيف ينقل القطاع العام من هشاشة الأنظمة القديمة إلى أنظمة قادرة على كشف التهديدات قبل وقوعها، لا بعدها؟
التحدّي الحقيقي هنا هو ربط ما يُقال على المنصبّات بما يُنفَّذ داخل المؤسسات: خطط واضحة، ميزانيات معلنة، وحدات متخصصة تعمل على مدار الساعة، وشفافية في تقييم الثغرات الأمنية بدل الاكتفاء بشعارات التحوّل الرقمي.
الشركات المحلية والناشئة الحاضرة في المؤتمر تكشف من زاوية أخرى عن إمكانات اقتصادية ضخمة. فالأمن السيبراني ليس فقط أداة دفاع، بل قطاع اقتصادي قابل للنمو، يمكنه خلق وظائف عالية المهارة واستقطاب استثمارات أجنبية. لكن هذا يتطلّب بيئة تنظيمية واضحة، وحاضنات أعمال تدعم الابتكار المحلي بدل الاستيراد الدائم للحلول الجاهزة.
ختامًا، يقدم مؤتمر C8-2025 للأردن فرصة نادرة: ليس فقط لعرض القدرات، بل لإعادة صياغة استراتيجية الأمن السيبراني الوطنية بما يتناسب مع طبيعة التهديدات المتغيرة. الأحداث التي يشهدها العالم تقول بوضوح إن من لا يمتلك قوة رقمية لا يمتلك قدرة تفاوضية. وإذا أراد الأردن أن يحافظ على استقراره ومكانته في الإقليم، فإن بناء قوة سيبرانية وطنية يجب أن يتحوّل من شعار إلى مشروع دولة، مدعومًا بالإرادة السياسية والموارد، وبخطة طويلة المدى لا تنتهي بإغلاق أبواب المؤتمر.
هذا الحدث لحظة اختبار، ولحظة إعلان، ولحظة قرار: إمّا أن يتحوّل إلى نقطة تحوّل في الأمن الوطني، أو يبقى مجرّد فعالية لعرض التقنيات دون ترجمة حقيقية على أرض الواقع.