الانتقال الجّادّ نحو التّعلّم
أ.د سلطان المعاني
21-11-2025 09:49 PM
يتقدّم الذكاء الاصطناعي اليوم بخطى أسرع من قدرتنا على إعادة ترتيب أسئلتنا عنه. نعيش زمناً تتحوّل فيه المعلومة إلى كائن حاضر دائمًا، يسبق السؤال أحيانًا، ويجيب قبل أن يكتمل القلق في ذهن الطالب. في هذا العالم الجديد يبدو التعليم بصورته التقليدية جسدًا متعبًا يجرّ معه إرث القرون الماضية: محاضرة أحادية الاتجاه، كتاب مدرسي مغلق، امتحان يقيس الذاكرة أكثر مما يقيس الفهم، وحقيبة مثقلة بالأوراق على كتف طفل صغير يملك هاتفًا يحمل مكتبة العالم في جيبه.
يُدفَع السؤال الآن إلى الواجهة: هل يبقى «التعليم» مجرد عملية تلقين؟ أم أننا مضطرون إلى الانتقال الجاد نحو «التعلّم» بوصفه فعلًا حيًّا يقوم به المتعلم بأدوات العصر وإيقاعه؟ الفارق بين المصطلحين لم يعد ترفًا لغويًّا، وإنما تحول إلى قضية مصيرية. التعليم القديم كان يدور حول ما يقوله المعلّم وما يحفظه الطالب. التعلّم المستقبلي يدور حول ما يستطيع الطالب أن يفعله بما يعرفه، وكيف يحوّل المعرفة إلى مهارة، والمهارة إلى قدرة على الابتكار والعمل.
يتغيّر شكل المحاضرة قبل أن يتغيّر مضمونها. المحاضرة التي تُلقى من منصة عالية إلى صف صامت تخسر معناها في زمنٍ يستطيع فيه الطالب أن يستمع إلى أفضل أساتذة العالم بضغطة زر. تصبح القيمة في الحوار، في النقاش الحي، في المشروعات المشتركة، في تحويل القاعة إلى ورشة عمل لا صالة انتظار لوقت الامتحان. دور الأستاذ يتحوّل من ناقل للمادة إلى مصمّم لتجارب التعلّم، ومن حارس للمعرفة إلى مرشد في غابة هائلة من المعلومات المتاحة.
يتغيّر شكل الامتحان هو الآخر. ورقة الأسئلة التي تطلب تعريفات محفوظة وتواريخ صمّاء لا تصمد أمام جهاز يقدّم الإجابات في ثوانٍ. الامتحان المستقبلي يميل إلى قياس طريقة التفكير، قدرة الطالب على تحليل مشكلة معقّدة، بناء مشروع، إعداد ملف، تصميم حلّ حقيقي لموقف من الحياة أو العمل. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتحوّل إلى شريك في الامتحان لا إلى خصم؛ أداة يستخدمها الطالب ضمن شروط واضحة ليبحث ويحلّل ويقدّم مخرجات مبدعة، ثم يُقيَّم على قدرته على التوظيف والنقد لا على قدرته على الحفظ وحده.
تتحوّل «المادة الدراسية» نفسها من نص مغلق إلى منظومة مفتوحة. الكتاب الورقي المتراكم فوق رفوف المناهج يتراجع لصالح محتوى ديناميكي يتجدّد، وموارد رقمية، ومحاكاة، ومنصات تفاعلية. لا يعني هذا طرد الكتاب من المشهد، وإنما إدخاله في شبكة أوسع من المصادر، حيث يتعلّم الطالب كيف ينتقل من فقرة في كتاب إلى ورقة بحثية إلى محاضرة رقمية إلى نقاش صفّي يعود في النهاية إلى سؤال جوهري: ماذا فهمت؟ ماذا تغيّر في رؤيتك للعالم؟
تدخل أدوات الذكاء الاصطناعي إلى قلب عملية البحث العلمي لدى الطالب منذ مراحله الأولى. هذه الأدوات تختصر الوقت في جمع المصادر، وتساعد في تنظيم الأفكار، وتقدّم ملخصات سريعة لنصوص طويلة. الخطر الحقيقي لا يظهر في وجود الأداة، وإنما في غياب المهارة النقدية لدى المستخدم. هنا تبرز مسؤولية جديدة للمؤسسات التعليمية: تعليم الطلبة كيف يسألون هذه الأدوات، كيف يشكّكون في إجاباتها، كيف يتحقّقون من المراجع، وكيف يحافظون على نزاهتهم الفكرية وهم يستخدمون تقنيات قادرة على إنجاز نصف العمل عنهم.
يتحوّل سؤال «هل سيبقى التعليم على ما هو عليه؟» إلى سؤال آخر أكثر إلحاحًا: «هل سنبقى نحن على ما نحن عليه؟». المستقبل لا ينتظر أن تُحسم النقاشات النظرية. الأجيال الجديدة تتعامل تلقائيًّا مع الذكاء الاصطناعي، تجرّبه في الكتابة، في الرسم، في البرمجة، في الترجمة، حتى قبل أن تعترف المؤسسات التعليمية رسميًّا بوجوده. الفجوة تتسع بين عالم المدرسة وعالم الحياة، وبين الورقة والواقع، وبين ما نطلب من الطالب أن يفعله في الامتحان وما يفعله فعلاً في يومه العادي.
يتطلّب الأمر إعادة صياغة أهداف التعليم نفسها. الهدف لم يعد أن نُخرِّج حافظين للمعلومات، وإنما أن نُخرِّج عقولًا قادرة على التعلّم المستمر، والتكيّف مع المجهول، والتعامل الأخلاقي مع قوة تقنية هائلة. هذا يستدعي مراجعة المناهج، وتدريب المعلّمين على أدوار جديدة، وبناء بنية تحتية رقمية عادلة لا تترك فئات واسعة من الطلبة خارج اللعبة لأنهم لا يملكون الأجهزة أو الاتصال الكافي.
تتحوّل المدارس والجامعات إلى فضاءات تلتقي فيها الإنسانية بالتقنية. الذكاء الاصطناعي يتولّى جزءًا من الشرح والتدريب والتقييم الفوري، والإنسان يتولّى ما لا تستطيع الخوارزمية أن تصنعه: بناء الثقة، تحفيز الفضول، احتضان الخطأ، فتح الحوارات الصعبة حول المعنى والقيمة والغاية. في هذا التوزيع الجديد للأدوار يكمن مستقبل التعليم الذي يليق بكرامة الإنسان ولا يخشى من قوة الآلة.
تبقى الأسئلة التي طرحتها معلّقة في الهواء: كيف نعيد تشكيل الامتحان؟ كيف نعيد تعريف المحاضرة؟ كيف نخفّف الحقيبة ونثري العقل؟ كيف نستخدم الجهاز الذي يجيب عن كل شيء تقريبًا دون أن نخسر متعة الاكتشاف ومسؤولية التفكير؟ هذه الأسئلة امتحان من نوع آخر، امتحان للمجتمعات وصانعي القرار والمعلّمين معًا. النجاح فيه لا يُقاس بدرجة على ورقة، وإنما يُقاس بجيل يشعر أن التعليم مساحة للحرية والنموّ، لا عبئًا يتلقّاه ولا منظومة يخافها. هذا الامتحان بدأ، وما نعدّه اليوم من رؤية وشجاعة وإصلاح هو الإجابة التي سيسجّلها التاريخ باسمنا.