facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




عقول خارقة


د. صالح سليم الحموري
24-11-2025 10:45 AM

في عالم يتغيّر بسرعة غير مسبوقة، لم يعد الذكاء ذلك الوميض المنعزل الذي يشتعل في ذهن فرد واحد. شيئًا فشيئًا، بدأت ملامح عصر جديد تتشكّل؛ عصر لا تكون فيه العقول وحدها ولا الآلات وحدها صاحبة القرار، بل شبكة واسعة من "البشر والتقنية والعلاقات الاجتماعية"، تعمل جميعها بتناغم لتخلق ما يشبه "عقلًا جديدًا" يتجاوز حدود أي قدرة فردية. أصبحنا نعيش في زمنٍ تتحوّل فيه العقول من جزر منفصلة إلى قارات مترابطة، ومن قدرات فردية إلى منظومات جماعية، ومن ذكاء محدود إلى "عقول خارقة".

لطالما اعتدنا عبر التاريخ أن نُرجع الإبداع لشخص واحد: عالم عبقري، مخترع ملهم، أو مفكر فذّ. كان الذكاء يُصوّر كنتيجة لحظة استثنائية تنبثق فيها الفكرة من عقل فرد بعينه. لكن عالم اليوم يبرهن على حقيقة مختلفة؛ إذ تبيّن أن أكثر الأنظمة ذكاءً ليست تلك التي تبنى على عبقرية واحدة، بل على تفاعل عقول كثيرة "بشرية ورقمية" تنصهر في منظومة تتفوق على أي عقل منفرد مهما بلغت عبقريته.

لقد ساعدتنا التكنولوجيا الحديثة في إعادة تشكيل هذا المفهوم. فالذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وشبكات التواصل، لم تعد مجرد أدوات، بل أصبحت "امتدادًا لقدراتنا العقلية. "إنها تضيف إلى وعينا طبقات جديدة من التحليل، وتمنحنا القدرة على رؤية ما هو أبعد من حدود التفكير التقليدي. وهكذا تحوّل السؤال القديم: هل تستطيع الآلات أن تفكر؟ إلى سؤال أكثر نضجًا: كيف يمكن للآلات أن تجعلنا نفكر بشكل أفضل؟

في هذا السياق، لم يعد الكمبيوتر مجرد آلة تنفذ الأوامر. لقد أصبح شريكًا كاملًا في التفكير: يكتشف الأنماط التي نعجز عن رؤيتها، ويعالج البيانات بقدرات تفوق تعداد البشر مجتمعين، ويفتح أمامنا أبوابًا جديدة للتعاون تتجاوز الحدود الجغرافية والمعرفية. ومع هذا التكامل بين البشر والآلات، يبدأ ما يُعرف بـ "العقل الممتد" بالتشكّل؛ عقل جمعي لا تحدّه جمجمة ولا يُقيد بإيقاع فرد واحد.

ويمتد هذا المفهوم إلى ما هو أبعد من الأفراد، ليشمل الحكومات والشركات والمجتمعات. فالحكومات التي تعتمد على البيانات بدلًا من الحدس، والأسواق التي تلتقط التغيّرات الدقيقة في لحظتها، والأنظمة البيئية التي تتنبأ بالتحولات قبل وقوعها، والطلاب في برامج الماجستير والدكتوراه الذين يستعينون بأنظمة الذكاء الاصطناعي لتوسيع آفاق بحثهم وتحليلهم، جميعها تشكل منظومات تتصرف كما لو كانت تمتلك عقلًا خارقًا ينمو من داخلها لا من فوقها. وحتى الشركات التي كانت تعتمد يومًا على رؤية قائد واحد، صارت اليوم تبني استراتيجياتها على تحليل ملايين الإشارات التي تجمعها التكنولوجيا وتعيد صياغتها في صورة “صوت واحد” أكثر حكمة ووضوحًا.

وتزداد قوة هذا العقل الجمعي حين نواجه التحديات الكبرى للعصر: تغيّر المناخ، الأزمات الاقتصادية، التعقيدات الاجتماعية الحديثة، بل وحتى المخاطر التي يخلقها الذكاء الاصطناعي ذاته. ففي مواجهة هذه التحديات، تكشف العقول الخارقة عن إمكاناتها الحقيقية؛ إذ تمنحنا القدرة على رؤية الصورة الشاملة بكل تفاصيلها، وعلى توقع السيناريوهات قبل ظهورها، وعلى الاستجابة بمرونة وسرعة، وعلى ابتكار طرق جديدة بالكامل لفهم العالم والتعامل معه.

ومع كل ما نملكه من إمكانات، يبقى السؤال الحاسم: إلى أين نمضي؟ هل سنبني عالمًا تُسهم فيه التكنولوجيا في تقوية ذكائنا الجماعي؟ أم سنسمح لها بأن تقود طريقًا لا نفهمه؟ إن الإجابة لا تكمن في خوارزميات الكمبيوتر، بل في قراراتنا نحن؛ في كيفية استخدامنا لهذه القوة الجديدة، وكيف نتعاون، وكيف نوسع مداركنا، وكيف نعيد تشكيل علاقتنا بالآلة دون أن نفقد إنسانيتنا في الطريق.

إن "العقول الخارقة" ليست حلمًا مستقبليًا ولا فكرة في كتاب. إنها تتكوّن الآن، في كل مرة يجتمع فيها البشر مع التقنية لصنع قرار أو ابتكار حل أو رؤية أعمق للعالم. إنها الوعد بأن الذكاء لن يعود سمة فرد، بل ثمرة تفاعل، وأن الإبداع لن يكون نتاج عقل واحد، بل نتيجة اتصال ملايين العقول.

قد يبدو المشهد واسعًا وضخمًا، لكنه يحمل حقيقة واحدة واضحة: المستقبل لن يكون ملكًا لأذكى شخص… بل لأذكى شبكة.

وفي عالم كهذا، لا تتضاعف العقول حين تنفصل… بل حين تتصل.

وهناك، في المساحة المشتركة بين الإنسان والآلة، يولد مستقبل يستحق أن نصنعه "مستقبل العقول الخارقة."





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :