قلة هم من جمعوا بين إرث الزعامة وبعد الرؤية والتمسك بالثوابت الوطنية. وجمال حديثه الخريشا كان واحداً من هؤلاء القلائل الذين ساروا على خطى الكبار، وحملوا إرثاً عظيماً من والده الراحل، ذلك الرجل الذي عُرف برجاحة العقل وثبات الموقف وصدق الانتماء لتراب الأردن وقيادته وشعبه. فكان جمال امتداداً طبيعياً لهذا الإرث، فارساً وقائداً في ميادين الجيش العربي، ثم نائباً ووزيراً وعيناً، لم تفقد بوصلته يوماً اتجاهها نحو الوطن.
عرفت أبا حديثه عن قرب، والتقيته أكثر من مرة في مزرعته بالموقر، حيث كنت ألمس في أحاديثه عمق التجربة واتساع الأفق. حين تحدث عن حرب عام 1967، أو عن تجربته في العمل النيابي والوزاري، كان يروي الأحداث بعين رجل الدولة الذي يرى ما وراء اللحظة، ويفكر بما هو أبعد من موقعه. امتلك رؤية شمولية لكل قطاع، واحساساً عالياً بالمسؤولية تجاه الإنسان الأردني والريف والبادية على حد سواء.
ولا يمكن الحديث عن مسيرته دون التوقف عند مشروع فلس الريف الذي كان من مقترحاته حين كان نائباً ووزيراً في حكومة المغفور له الشريف زيد بن شاكر، وهو مشروع ترك اثراً تنموياً ملموساً في مناطق واسعة من المملكة. كما كان له دور استراتيجي في تحديد مسار الطريق الواصل بين عمّان والحدود السعودية والعراقية، وهو ما يعكس بوضوح نظرته المستقبلية وفهمه العميق لعلاقة البنية التحتية بالنمو الاقتصادي والخدمي.
كان أبو حديثه نموذجاً لرجل الدولة الذي لا يسعى إلى الأضواء بقدر ما يعمل بصمت وإخلاص. جمع بين الانضباط العسكري والمرونة السياسية، وبين الوفاء للماضي والإيمان بالمستقبل. واليوم، ونحن نودعه، نودّع فارساً حمل في قلبه الأردن كله، وترك وراءه سيرة عطرة تُروى بفخر.
نم قرير العين يا أبا حديثه، فقد سلّمت الراية لمن يستحقها، وبقيت في ذاكرة الوطن رمزاً للوفاء والقيادة والصدق. رحمك الله رحمةً واسعة، وجزاك عن وطنك وأهلك خير الجزاء.