نعم، لم تخطئ القراءة..
فالأردن دولة إرهاب. لأنها ومنذ عقود تمارس نوعًا نادرًا ومخيفًا من الإرهاب: إرهاب الإنسانية، إرهاب الشهامة، إرهاب العروبة حين تكون في أصفى صورها وأكثرها صدقًا.
هذا البلد الصغير بمساحته، الكبير بقيادته، يرهب الأمم بمعاملة لا يستطيع تقليدها إلا أصحاب القلوب الواسعة والضمائر التي لا تعرف النوم. أرهبهم حين فتح حدوده للمنكوبين قبل أن يسأل عن أسمائهم، ويرهبهم حين يقدّم ما لا يملك، ويقتسم رغيفه مع الغريب كما لو أنه ابن الدار. يرهبهم عندما يصرّ على أن العروبة ليست شعارًا، بل فعلاً يُمارس يوميًا، وموقفًا حين تتخلّى المواقف عن أصحابها.
وإن كانت الدولة إرهابية بهذا المعنى، فإن القيادة أشدُّ إرهابًا
إرهابًا من النوع الذي يربك القوى الكبرى، لأنها قيادة لا تتراجع عندما تتراجع حسابات السياسة، ولا تتخلّى عندما تتخلّى المصالح، ولا تتلوّن عندما يتلوّن الجميع.
قيادة تمارس إرهاب الثبات، إرهاب الوضوح، إرهاب النُّبل، إرهاب الموقف حين يكون الموقف أغلى من أي مكسب. إنها قيادة ترهب العالم لأنها تعرف ماذا تريد، وتعرف أين تقف، وتعرف أن الشرف لا يُؤجَّل ولا يُقايَض.
الأردن دولة إرهاب… لأنه رغم كل ما مرّ عليه من أزمات وضغوط، لا يزال يقف بثبات يربك دولًا أكبر منه بكثير. والسرّ ليس في مساحة الأرض، ولا في وفرة المال، بل في قيادة تدير هذا البلد كأنها تدير بيتًا، لا دولة. قيادة تمارس إرهاب الحكمة، تقول القليل، ويبقى الأثر يدوّي في العواصم. لا تصرخ، لكنها تُسمِع. لا تستعرض قوتها، لكنها تُفهم الآخرين أن القوة ليست في اليد، بل في القرار.
قيادة ترهب العالم لأنها تُتقن الصمت المدروس… الصمت الذي يحمل موقفًا، لا خوفًا. الصمت الذي يقطع أشواطًا أبعد من الخطب التي تُلقى ولا تصنع أثرًا. هذه القيادة تُربك خصومها لأنها لا تنجرّ إلى الفوضى، ولا تسمح لها بالاقتراب من حدودها، ولا تترك للظروف أن تُدير المشهد بدل أن تُديره هي. إرهاب من نوع يُشعِر القوى الكبرى أن أمامها قيادة لا تُشترى بالضغوط، ولا تُباع بالمغريات، ولا تُغيّر جلدها مع تغيّر المناخ السياسي.
الأردن دولة إرهاب لأنه يرهب العالم بإنسانيته. فحين تتدفق موجات اللاجئين، تقف دول كثيرة لتعدّ مواردها، وتحسب خسائرها، فيما يفعل الأردن ما تفعله الدول ذات القيادة النبيلة فقط: يفتح الباب أولًا، ثم يفكر لاحقًا. يستقبل الإنسان لأنه إنسان، ويحميه لأنه ملهوف. وهذه ليست سياسة طارئة، بل إرث قيادة اعتادت أن تسبق العالم بخطوة نحو الرحمة. قيادة تمارس إرهاب الإنسانية، فتُسقط كل أعذار الآخرين، وتُظهر خواء مبادئهم حين يُختبرون.
ويزداد إرهاب القيادة وضوحًا حين تنحاز لشعبها بلا تردد، فتقف معه في كل ضيق، وتتكلم معه، لا من فوقه. لا تتوارى خلف بروتوكولات ولا خلف جدران، بل تكون حاضرة في اللحظة التي يحتاجها الناس فيها. وهذه العلاقة التي تجمع القيادة بالشعب ليست علاقة سلطة، بل علاقة مسؤولية تُؤخذ بجدية لم تعد كثير من القيادات تعرف معناها. إرهاب من نوع نادر: إرهاب القرب، إرهاب المتابعة، إرهاب الشعور بالناس قبل أن يطلبوا.
أما حين يتعلق الأمر بفلسطين، فإن إرهاب القيادة يبلغ ذروته. فهناك، يصبح الموقف ثابتًا إلى درجة تُربك العالم. لا مساومة، لا التفاف، لا تردّد. موقفٌ واضح كالشمس، صريح كالسيف، لا يُباع ولا يُشترى. قيادة تفهم أن القدس ليست ملفًا، بل هوية. وأن فلسطين ليست قضية موسمية، بل شرف عربي لا يسقط. وهذا الإرهاب — إرهاب الثبات على المبدأ — هو الذي يجعل العالم يعيد حساباته كل مرة ينطق فيها الأردن بموقفه.
نعم..
الأردن دولة إرهاب.
وقيادته إرهابية أيضًا…
لكنها تمارس الإرهاب الذي تحتاجه المنطقة: إرهاب الشجاعة حين يجب أن يكون الإنسان شجاعًا، وإرهاب الأخلاق حين تختفي الأخلاق، وإرهاب الموقف الشريف حين يهرب منه كثيرون.
إرهابٌ يُعيد للدول مفهومها الحقيقي…
ويعيد للسياسة معناها النظيف…
ويعيد للإنسان قيمته حين تحاول الدنيا كلها أن تنتزعها منه.
وسلامتكم.