مفهوم "الحداثة" في عقل الدولة .. أزمة وعي أم أزمة إدارة؟
فيصل تايه
25-11-2025 10:34 AM
ثمة خلل خفي يتسلل داخل بعض من مؤسسات الدولة، خلل لا يصدر صوتاً، لكنه يترك آثاراً أشبه بالشروخ العميقة في جدار وطن نرفعه كل يوم ، هذا الخلل لا يكمن في القوانين ولا في الهياكل التنظيمية ولا في الموارد ، بل في العقل الذي يمسك بمقود الإدارة ، فالعقل هو الدولة الحقيقية، وما سواه مجرد أدوات ضعيفة بلا روح.
لقد تحوّل المنصب ، في أيدي البعض، من أمانة تحمل إلى امتياز يستباح ، ومن مسؤولية تحاسب إلى نفوذ يستثمر ، وهنا يبدأ الانحدار ، فحين تصبح القرارات بنزعة مزاجية لا موضوعية، وحين تدار المؤسسات بوحي الولاءات لا بالكفاءة، وحين يتحول المسؤول إلى مركز جذب للشللية، لا إلى بوصلة للارتقاء العام، يتحول الوطن إلى مرآة لمصالح شخصية قاتلة.
إن أخطر ما يواجه الدولة ليس الفساد نفسه، بل العقل الذي يبرر الفشل ثم يعممه، ويستمرئ القرارات المرتجلة التي تبنى بلا قراءة ولا استشراف ، فهنا يبدأ الانطفاء البطيء للحداثة، وتعود الدولة إلى مربع الذهنية الشرقية التقليدية ، ذهنية المركز الذي يحتكر الضوء، ويترك الأطراف في الظل، في حين يمضي العالم حولنا بأشواط من التطور .
نحن اليوم لا نعيش أزمة إدارة فحسب ، بل أزمة وعي بمفهوم المسؤولية ، فالمسؤول الذي لا يرى المؤسسة إلا مرآة لذاته، يحولها مع الوقت إلى نفق ضيق، مهما كانت واسعة ، والمسؤول الذي يخاف النقد، يخاف التجديد ، والمسؤول الذي يحيط نفسه بأشباه الرجال لا برجال المواقف، يبني حول نفسه جداراً يظنه حماية، لكنه في الحقيقة عزلة قاتلة تقطع أنفاس أي تقدم محتمل.
لقد آن الأوان أن نكسر هذا النموذج المتكلس الذي ترسخ في ثقافتنا العامة ، نموذج القائد الذي يصنع من الولاء قبل الكفاءة، ومن الصوت العالي قبل الفكرة الصلبة ، فالحداثة ليست في تغيير المكاتب، بل في تغيير العقل الذي يجلس خلف المكتب، وفي إيقاظ الوعي الداخلي لكل من يتخذ القرار.
إن الموقع العام يشبه الشعلة ، إما أن يحملها المسؤول لتضيء الطريق للجميع، أو تحرقه وتحرق من خلفه، تاركة وراءها ظلاماً يبتلع المؤسسات والمجتمع معاً ، ولا يمكن أن تدار دولة بحجم دولتنا بذهنية نخبوية مغلقة، تعيد تدوير الأشخاص أنفسهم، وتجرب الفشل ذاته، وتنتظر نتائج مختلفة كمعجزة لم تحدث.
القيادة الحقيقية تتطلب وعياً يسبق القرار ، وضميراً يسبق المصلحة، ورؤية تتجاوز حدود الذات ، ذلك ان مؤسسات الدولة ليست حقول تجارب لمن اعتاد التنقل من موقع إلى آخر محملاً بخيباته القديمة، بل هي رئة الوطن التي إن ضاق فيها الهواء ، اختنق الجميع، وضاع الأمل الجماعي .
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأي مؤسسة هو أن تتحول إلى "دائرة نفوذ" لا "دائرة خدمة" ، وأن يصبح المنصب هدفاً، لا وسيلة ، فهنا تتهشم المعايير، وتتآكل هيبة القانون، وتبقى المؤسسة تدور في الحلقة المفرغة ذاتها بينما يتغير العالم كله حولها، وكأن الزمن يسرق الفرص أمام أعيننا.
مراراً حث جلالة الملك ، قائد الوطن والفارس الرشيد، على ترسيخ الديمقراطية الإدارية، وجعل الشفافية أسلوب حياة لا مجرد شعار ، غير أن بعض أصحاب المناصب ما زالوا أسرى عقلية الإقطاع الوظيفي ، يحمون مواقعهم كما لو كانت ملكاً خاصاً، ويخشون التغيير لأنه يهدد امتيازاتهم لا كفاءتهم، متناسين أن الوطن لا يرحم المتقاعسين.
إن مستقبل الدولة يبدأ من إصلاح العقل الذي يقودها ، فمن إعادة تعريف المسؤولية بوصفها تكليفاً لا تشريفاً ، ومن وضع الأشخاص المناسبين في مواقع القرار، لا لأنهم الأقرب، بل لأنهم الأقدر ، لذلك فنحن بحاجة إلى قيادات تمتلك الجرأة على الاعتراف بالخطأ، والحكمة في تغييره، والقدرة على إقناع الجميع بأنها تعمل من أجل الوطن لا من أجل ذاتها ، قيادات تحمل كاريزما النزاهة قبل كاريزما الصوت، وتؤمن بأن أقصر الطرق إلى الانهيار هو الاستهانة بذكاء الناس، وأن التردد في اتخاذ القرار هو البداية الحقيقية للفشل المؤسسي.
إن الحداثة الإدارية ليست حلماً نخبوياً، بل ضرورة وطنية. فإذا أردنا لدولتنا أن تتنفس بعمق، وأن تتجاوز أزماتها، وأن تواكب العالم المتغير، فلا بد من كسر الحلقة التقليدية التي تعيد إنتاج الفشل، ووضع خريطة طريق جديدة تقوم على ، الكفاءة، المساءلة، الشفافية، الرؤية، والجرأة على التغيير.
بقي ان اقول ، ان الخوف ليس من المستقبل ، بل من مسؤول لا يرى المستقبل، ومن عقل يرفض الاستجابة لتحديات العصر ، فإذا أردنا أن ننهض بمؤسسات الدولة، فلا يكفي الحديث عن الإصلاح أو التغيير من بعيد ، بل يجب أن يكون كل مسؤول مرآة لتطلعات الشعب، وأن تكون كل قيادة معبرة عن ضمير الوطن قبل أي اعتبارات شخصية ، فالوطن لا ينتظر، والمؤسسات لا تحتمل التردد ، فلنضع العقل والكفاءة قبل الولاءات، والرؤية قبل المصالح الضيقة، فالرهان الحقيقي على المستقبل يجب ان يبدأ من الآن، وبالأشخاص الأكفأ الذين يملكون القدرة على قلب الموازين لصالح الوطن.
وختاماً ، فلنجعل من عقل الدولة منارة للوعي، ومن قرارات المسؤولين نبراسا للفعل الحكيم، ومن الشفافية شعاراً حياً يلمسه كل مواطن، فلا مكان للفشل المتكرر ولا للامتيازات الضيقة، ولنجعل كل مسؤول في موقعه جسراً للنهضة وليس حاجزاً أمامها.
والله من وراء القصد