لَيَبْدو اليوم من الجو العام، أن السلام المجتمعي القائم باستقرار العوامل الاتصالية بيننا نحن البشر، والمُقيم لحالات التحضر والتقدم التي تدفع شبابنا لمزيد من الإبداع الريادي الأصيل، قد تباينت مشاربه وتعددت من ذلك مقاصده، لم يعد السلام حالة بعد الاستقرار الضمني أو العملي، بل أداة لفك البروباغاندا الإعلامية وأحياناً لدعمها، بمعنى أننا بتنا نصرخ بالسلام والاستقرار وننهل من هذه المشارب، دون أن تكون متحققة بشكل وثيق، إيجاد المصطلح ضمن فروع من الصياغات المختلفة، وضمن جملة من العبارات الجاهزة القابلة للاستخدام، بينما يفقد الجذر الذي تحمله الصفة حقه الحقيق باللفظ، حري بكل من يحمل دفة التغيير والتأثير، في بيئة خاصة أو عامة، وعلى العموم أو ضمن الفروع وأهل السبق، أن ينسب الكلام لما ترتضيه النفس من صدق ودقة، وشرف بتحمل المسؤولية والاندفاعية بانتظام واتزان الواثق، لا لما تقتضيه الحاجة فقط، فلا تغيير في الأمور الحادثة والآنية، بل في المُحْدَثَة، ولكنه العمى الذي افقدنا قيمة التقدير وميزانه، تقدير الخطاب ضمن عناصر الوقت والموقع والموقف، ظلام أنزلنا لغياهب أدخلتنا في أسوأ مرحلة من دورة الحضارات المطربة، وضللتنا عن المنهجية المرجوة من أفق العمل، وأن الحلول تبتدئ من توحيد الخطاب واتساقه ضمن ما تقتضيه القاعدة الاجتماعية وما يرضاه المنظور القيمي لهذا الأساس، فتستعيد الأداة بذلك قيمتها المنهجية لا العاطفية، فأين موطن الظلام؟، وكيف تسير الظلال بسير التيار المجتمعي؟، كيف تضلل؟، وكيف يحل الإعلام المعضلة؟.
فوضى الأفق وفقدان الميزان
ما من اضطراب ليحصل يوماً إلا باتحاد العناصر الداخلية المحددة لخارطة طريق المجتمع، على ما يشوب وينزاح عن معايير هذا المجتمع وقيمه وأخلاقه وهو ما أعنيه بال (المنظور القيمي)، أي ما حدده وضبطه وأطّره النسيج الذي كوَّن أساس المجتمع وما يعرف بشبكة العلاقات الاجتماعية، فإن كنا سنطرح للفوضى معايير تعتمد على امتداد افاق الاضطراب في أي شيء يمسه ويؤثر عليه، فإن البداية توضع عن الحجر الأول للبناء التراتبي، وإذ يفقد مجتمعٌ ما السيطرة على اتزانه من قاع الهيكل، فإن كامل ميزانه سيختل بالضرورة إلى أن يفقده وتدور الدائرة الحضارية عليه فيهوي، لقد حُكِمَ على امتنا ان تكون أسيرة استعمار ثقافيٍ ممتد على مدار المئة عام الماضية، عشنا خلالها حياة القَشَّة الهشة التي لا ينمو عليها أي ارتكاز، ليس لقلة عدد القش، بل لأنها قشة!، بمعنى أن المسألة ليست بالعدد، ولكن بالتكوين الذري الفقير مقابل المهمة الحديدية، فقد اضطرب الواقع المنهك بعد انفكاكنا حضارياً عن النسيج الإسلامي (العثماني)، ودخلنا حيز البناء الفكري وهذا إلى الآن منطقي، ثم شربنا كأس الاستعمار الملوث، وصرنا ننتهج نهج الفرنسيين في التقويم، ونهج الإنجليز في التقدير، وهذا أدخلنا حالةً تسمى أكاديمياً ب(الاستلاب الحضاري)، وهكذا تدور علينا المنابت والمشارب حتى غدت جرثومةً تطارح الحمض النووي الأصيل، وبذلك أُحْكِمَت القبضة حول الرقاب، وفُرِض علينا نهج عصبة الأمم (التي تُسمى الآن بالأمم المتحدة)، وأُدْخِلنا العولمة من بعد ذلك مرغمين بغير وعي بالعواقب!، وهذا هو ما نعلنه آسفين بأنه مرحلة الارتباك الحضاري، والذي من أراد لها وصفاً فاليُشِر بإصبعه إلى الأرض التي يقف عليها، إشارةً إلى آنية هذه اللحظة!.
ظلال الارتباك والإعلام من ورائها
إن هذا الارتباك الحضاري الذي نعيشه، وهذا التفرق والتشرذم الظاهر في التقسيمات المجتمعية غير الطبيعية، وذات المرتكزات السياسية والاقتصادية غير السليمة، أزال الآمال في اعتماد خارطة للطريق، حيث باتت فوضى الأفق هي الحاكم الجديد للمشهد، لو تصورنا ساحة مكشوفة فيها عدد كبير من الأشخاص، وطلبنا منهم التحرك بشكل عشوائي وفي اتجاهات معاكسة (وكذا حال الخلاف)، لوجدنا رغم ذلك أن ظلالهم وخيال كل واحد منهم، منعكسون باتجاه واحد على الأرض، رغم أنهم يتحركون بعشوائية (باختلاف) إلا أن المصدر المولد للظل أو الخيال مصدر واحد وثابت لا يتغير، ويشار إلى الاتجاه من المصدر الذي كوَّنه ولو بشكل غير مباشر، لا للقالب الذي تشكل عليه، كأشعة الشمس في هذا المثال، وما يحصل اليوم في إعلامنا العربي المكلوم، هو أن الصدى والانصياع يكون لظلال الأخبار لا لأصولها!!، حيث يظهر تأثير الصانع الخفي المسيطر ولا تظهر الأسس التي أُنتج الظل على قالبها، هذه العلاقة بين القشور وبين الأصول، بين المهم وبين التافه من القول أو الفعل (وفي كثير من الأحيان الخطير لا التافه!) جعلنا أسرى لظلال الارتباك التي صيغت على أجسادنا ولم تصنعها أيادينا، ملخص الكلام: حتى الإعلام المشتت، يخدم غاية واحدة ولو خفية، والظلال هنا: صدى الأخبار لا أصولها.
من الارتباك إلى التضليل
بما اننا حينما نختلف، نخدم غاية واحدة، فهذا الكلام ليس بالجديد، فالمتعارف عليه أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، وأن العمل الاجتماعي من الأساس يقوم على التباين في الآراء من جل إجراء تصحيح في المواقف الموحدة، هذا صحيح، ولكن الحاصل هاهنا، هو أننا عملنا دوماً وبكل جد وكد، على تشكيل الهياكل النظرية والعملية للقوالب التي ستبنى عليها الظلال، وتركنا المصدر الذي يطلق الطاقة لإحداثها من الأساس!!، ولكل ظل تكون شمسٌ واحدة، وهي التي تحدد إلى أين المسير وإلى أين القرار، أما نحن فبكيف نسير وبأي زاوية وتحت أي مسمى، يعني عناوين وحشو على أصول لا نمتلكها، ورمينا اًصولنا عرض الحائط داخل براويز في متاحف الآثار داخل قسمٍ معنونٍ "بالتراث!" وأحياناً "تاريخ الأقوام البائدة!"، هنا يجد التضليل ضالته، فإعلامنا اليوم لا يطلق الرسالة بما يهوى لها المرسل (أي نحن) أن تتشكل وتتضح، بل بما أُجِيز لنا أن نخرجها على أساسه، وضمن مقاييس لا نحدد لها أول من آخر.
واجب التقدير في زمن الظلال
العبرة الخالصة في واجب تقديرنا للموقف تقول: لو سرنا وكنا بحجم الأرض، ستظل الأرض رغم العظمة في الحجم، محكومة بالدوران حول الشمس وكذا المجموعة الشمسية فالانتساب إليها في النهاية، الغاية هنا أن نبلغ مواقع النجوم من بعدها وهكذا نَنْفك!، ولو كنا عَرَبَاً متفرقة (والتفرق أحياناً حميد ولكن كيف يُفْهَم)، فالمجموعات النجمية خير دليل على أن الانبثاق من الأصل الموحد الداخلي الأصيل، لهو السبيل الوحيد لنرتقي لما بعد الاستلاب، أي لما بعد الانصياع في الخطاب والتأثر، ويُبْلغنا ما نرجو من التماسك الذي يتجاوز شمس التضليل وظلالها البائسة، وهذه بحق، رسالة الإعلام الصافية، أن نُعْلِم الأمم عمن نكون وبكيفية أصيلة، لا كيف يراد لنا أن نُصَوَّر.