من هنا يبدأ الإصلاح: قراءة في تشخيص المعشر لأزمة التعليم
د. هيفاء ابوغزالة
29-11-2025 11:13 AM
ما يلفت في كلمة الدكتور مروان المعشر في ندوة المسار الوطني ليس وصفه للتحديات الأردنية بقدر ما هو تحريره للمسكوت عنه في إدارة الدولة، واعتباره أن كثيرًا من الادوات في المجالات المختلفة قد وصلت إلى سقفها الطبيعي ولم تعد قادرة على إنتاج نتائج مختلفة. المعضلة، كما يراها، ليست ظرفًا عابرًا بل اختلالًا بنيويًا يتعمّق مع الوقت.
الجانب الذي يستحق الوقوف عنده في حديثه هو إحساسه العميق بأن الأردن يراوح في مكانه لأنه لا يزال يتعامل مع الأزمات بوصفها ملفات منفصلة تُعالج “بالقطعة”، لا كصورة مترابطة تعكس نمطًا كاملًا من صنع القرار. أمام أرقام بطالة عالية، وتمدّد لدور القطاع العام، وتراجع قدرة القطاع الخاص على الاستيعاب، حيث يقدّم قراءة صريحة: منها أن النموذج الاقتصادي الذي اعتمد عليه الأردن لعقود استُنفذ، ولم يعد قادرًا على إنتاج فرص أو خلق نمو حقيقي.
وهنا ينتقل إلى مربط الفرس: التعليم.
بالنسبة له، أزمة الأردن ليست اقتصادية بقدر ما هي معرفية. فالتعليم هو أول مؤسسة تفشل عندما تتآكل قدرة الدولة على التطوير، وهو آخر مؤسسة تنجح عندما تتجه الدولة فعلًا نحو الإصلاح.
فهو يرى أن أي إصلاح في الأردن يصبح تجميليًا إذا لم يبدأ بإعادة بناء النظام التعليمي من الأساس لا من الأطراف.
وفي حديثه عن التعليم، يصل إلى لبّ الإشكالية. فبالنسبة له، التعليم ليس قطاعًا منفصلًا، بل هو قلب الأزمة. فالأزمة ليست مناهج أو أجهزة لوحية، بل أزمة رؤية: هل نريد نظامًا يصنع عقولًا قادرة على الإبداع، أم نظامًا يصنع عمالة تبحث عن وظيفة حكومية؟. كلامه يلمّح إلى أن أي إصلاح اقتصادي لن ينجح دون إعادة بناء جذرية لمخرجات التعليم، لا مجرد تعديلات سطحية.
وينبّه إلى فجوة مركزية:
هناك تناقض كبير بين أهداف الأردن الاقتصادية من جهة، ومخرجات التعليم من جهة أخرى. نحن نريد اقتصادًا منتجًا، قطاعًا خاصًا قويًا، واستثمارات قادرة على خلق وظائف، بينما النظام التعليمي يصنع مخرجات غير مؤهلة لسوق العمل، وغير قادرة على التفكير النقدي، وغير مستعدة للابتكار. هنا تكمن المفارقة التي يشير إليها : الدولة تتوقع نتائج جديدة من نظام تعليمي قديم، وتلوم الشباب على البطالة بينما لا تملك الأدوات التي تؤهلهم لاقتصاد حديث.
في حديثه، شعور واضح بأن الأردن يعيش “إجهادًا مؤسسيًا”: تتوسع التحديات بينما تبقى الأدوات ثابتة، والقرارات صغيرة بينما المشكلات كبيرة. يدعو من دون مبالغة أو عاطفة إلى إعادة تعريف التعليم نفسه: ليس كمنهاج، ولا كبناء مدرسي، ولا كتوزيع لأجهزة لوحية، بل كمنظومة تُعيد تشكيل الإنسان الأردني ليكون قادرًا على النجاة في عالم يتغير بسرعة.
الرسالة الجوهرية في قراءته أن التعليم لم يعد قطاعًا يحتاج إصلاحًا، بل صار شرطًا لدعم الدولة اقتصاديًا وسياسيًا. من دون تعليم منتج، لن يكون هناك اقتصاد منتج، ولن يصمد أي إصلاح اقتصادي مهما كان شكله. فالتعليم هو الذي يحدد شكل القوى العاملة، ونوعية الابتكار، والثقافة الإنتاجية، وشكل التفكير الشعبي، وقدرة المجتمع على التغيير.
كلام المعشر، في جوهره، يوجّه سؤالًا محرجًا:
هل نملك الشجاعة للاعتراف بأن التعليم كما نعرفه انتهى، وأن مستقبل الأردن مرتبط بقدرته على خلق جيل جديد لا جيل مكرر من العاطلين المؤهَّلين بطُرق قديمة؟
إنه لا يقترح حلولًا جاهزة، بل يضع شرطًا أساسيًا:
لا يمكن إصلاح الاقتصاد دون إصلاح التعليم، ولا يمكن إصلاح التعليم دون قرار سياسي يعترف بأن أدوات الأمس لم تعد تكفي لواقع اليوم.
الكلمة بمجملها تحمل نبرة نقدية لكنها غير يائسة. هدفها ليس جلد الذات بل كسر الإنكار. هي محاولة لإعادة وضع الأسئلة الصحيحة بدل الاستمرار في تدوير الإجابات القديمة. حديثه لا يقدم حلولًا جاهزة، لكنه يقترح شرطًا أساسيًا للحل: ألا نخاف من الاعتراف بأن ما نفعله لم يعد يعمل.