وصفي التل… رجلٌ عبرَ الزمن وصاغ للأوطان قدراً
د.جلال الشورة
29-11-2025 01:51 PM
تعود ذكرى استشهاد وصفي التل كل عام، لا كحدثٍ عابر في تقويم الدولة، بل كوقفة تعيد طرح السؤال الذي لا يشيخ: كيف يُبنى الوطن؟ وكيف يُصان وسط عالمٍ يزداد تعقيداً؟ وفي زمنٍ تختلط فيه الحسابات السياسية بضباب اللحظة، ويبحث الناس فيه عن رجالٍ ترتاح إليهم البوصلة، ينهض اسم وصفي التل كأنه خرج لتوّه من زمنه؛ لا لاستدعاء الماضي، بل لتذكير الحاضر بأن المسار لا يستقيم ما لم يحمل رجال الدولة روح الدولة.
ففي ذاكرة الشعوب رجال يشبهون الفجر؛ لا يحتاجون إلى ضجيج كي يضيئوا، بل يكفي حضورهم لتبدّد العتمة. ومن بين هؤلاء يقف وصفي التل شامخاً، لا لأنه جلس على مقعد رئاسة الحكومة، بل لأنه شكّل مدرسة وطنية متكاملة تؤمن بأن الدولة تُدار بالموقف والصدق قبل السياسة. لم يكن التل موظفَ دولة، بل أطروحة كاملة لمعنى الرجولة السياسية ونقاء الانتماء وصلابة القرار في زمنٍ كانت فيه المواقف تُختبر على المحك.
لم يعرف وصفي التل لغة المساومات، ولم يتغيّر موقفه وفق تبدّل الظروف. كان يقول “لا” حين يجب أن تُقال، ويمضي بها حتى نهايتها. ولذلك بقي أكبر من منصبه، وأكبر من موقعه. رأى في الأردن مشروعاً لا يُقاس بالأشخاص، بل بالتضحيات التي تُقدَّم لحمايته.
وحين جاء يوم الغدر، لم تُنهِ الرصاصات حضور وصفي، بل أطلقت بداية جديدة له في وجدان الأردنيين. استشهاده لم يكن نهاية رجل، بل بداية مرحلة أخرى في ذاكرة الدولة. رحل جسده في القاهرة، لكن صوته بقي يتردّد في الأردن؛ في كل بيت، وفي كل قلب، وفي كل موقف يشعر الناس فيه أن الدولة تحتاج إلى رجلٍ بحجم وصفي التل. اعتقد القتلة أنهم يغتالون رجلاً، لكنهم لم يدركوا أنهم يثبتون فكرة في الذاكرة لا تُمحى.
ومع أن صلابته السياسية شكّلت جانباً أساسياً من شخصيته، إلا أن إنسانيته كانت أكثر وضوحاً وتأثيراً. فقد كان بسيطاً، قريباً من الناس، نظيف اليد، زاهداً في المظاهر، يرى في الفلاح قيمة الوطن، وفي الجندي شرفه، وفي المعلّم أساس الدولة. ولذلك بقي محطّ حب واحترام، ليس لأنه “الزعيم”، بل لأنه الرجل الذي يشبه الناس… والذي عاش كما يجب أن يعيش من يخدم وطنه.
وصفي التل ليس ذكرى سنوية تُستعاد، ولا اسماً يُرفع في المناسبات. إنه فكرة حيّة. فكرة الدولة التي تُدار بالشفافية لا بالصفقات، وبالمسؤولية لا بالوجاهة، وبالرجال الذين يعرفون أن الوطن أكبر من أي مكسب شخصي. هو معيار يُقاس عنده صدق المسؤولين، وبوصلة تُختبر عندها مواقف القيادات، ورسالة تؤكد أن الدولة لا تُحمى بالكلام بل بالرجال القادرين على دفع ثمن مواقفهم.
لم يكن وصفي يسعى لأن يكون رمزاً، لكن حياته جعلت الرمزية تختاره. وحين نتذكره اليوم، فإننا نستحضر المعنى الذي لم تغتله الرصاصات… نستحضر الفكرة التي بقيت. وصفي لم يمت… وصفي حيٌّ بفكرته… وصفحته لا تُطوى.