facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




النفاق الاجتماعي وأثره الاقتصادي


م. عبدالفتاح الدرادكة
29-11-2025 04:39 PM

يُعدّ النفاق الاجتماعي من أكثر الظواهر المترسخة في سلوكنا المجتمعي، والتي أثّرت سلباً في منظومة القيم والاقتصاد الوطني معاً. إذ يغلب على كثير من ممارساتنا التصنّع والمبالغة في المظهر على حساب الجوهر، والعمل على تلميع الصورة بدلاً من بناء الحقيقة. وينعكس ذلك على استنزاف الموارد في المظاهر البراقة بدلاً من توجيهها نحو الإنتاج والتنمية. وعلى الرغم من محدودية الإمكانيات الاقتصادية، بات النفاق الاجتماعي جزءاً من الثقافة اليومية، يظهر في التعليم والبناء والمناسبات الاجتماعية وحتى في حجم وأنواع السيارات الشخصية والرسمية.

النفاق الاجتماعي في التعليم

منذ الطفولة تبدأ ملامح هذا النفاق بالتشكل. فبدلاً من توجيه الأطفال نحو ما يتناسب مع مواهبهم وقدراتهم، يسعى كثير من الأهالي إلى فرض تخصصات معينة عليهم مثل الطب أو الهندسة، ليس حباً في العلم، بل سعياً وراء “الوجاهة الاجتماعية”. ويتم إنفاق مبالغ طائلة لإرسال الأبناء إلى الخارج على الرغم من توفّر نفس التخصصات وبمستوى علمي جيد في الجامعات الأردنية.

وحيث إن معدل الثانوية العامة يمثل معياراً لقدرات الطالب، يتجاوز الكثيرون هذه القاعدة باللجوء إلى مدارس خارجية تمنح معدلات عالية، تمكّن أبناءهم من دراسة الهندسة أو الطب فقط للحصول على “اللقب الاجتماعي”. وهكذا تُهدر الأموال في سبيل المظاهر، بينما يعاني سوق العمل من نقص في الحرفيين وأصحاب المهن، الذين استُبدلوا بالعمالة الوافدة نتيجة تراجع ثقافة العمل المهني.

خادمات المنازل وثقافة العيب

ومن مظاهر النفاق الاجتماعي أيضاً موضوع الخادمات الأجنبيات اللواتي يزيد عددهن في الأردن على مئات الآلاف. ورغم تفهّم الحاجة إليهن في بعض البيوت التي يعمل فيها الزوجان، إلا أن هذه الظاهرة تجاوزت الحاجة الفعلية لتصبح أحياناً باباً للمباهاة والمغالاة، حيث تشغّل بعض الأسر عدداً كبيراً من الشغالات، وغالباً من الجنسيات الأعلى تكلفة.

والمفارقة أن هذا يحدث في بلد محدود الموارد مثل الأردن، بينما لا نجده في كثير من الدول الأوروبية الغنية، حيث لا وجود لثقافة العيب، وتعتني الأسر—بمختلف مستوياتها—ببيوتها بنفسها دون حرج ولا مبالغة.

الإنفاق على البناء: المظهر قبل الحاجة

ولا يتوقف النفاق الاجتماعي عند التعليم والعمل المنزلي، بل يمتد إلى طبيعة بناء المنازل. فبدلاً من تشييد منازل عملية تناسب حجم الأسرة، يبالغ كثيرون في المساحات والتشطيبات والديكور الداخلي والخارجي. فالأسرة المكوّنة من خمسة أشخاص تكفيها مساحة 100–150 مترًا، لكننا نجد منازل تفوق 300 متر وكأن الغرض ليس السكن، بل الاستعراض.

ويؤدي هذا التوجّه إلى استنزاف مئات الآلاف من الدنانير في الواجهات والزخارف، بينما يمكن لهذه الأموال أن تتحول إلى مشاريع إنتاجية تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد وخلق فرص العمل. والمفارقة أن هذه القصور الفارهة تبقى خاوية إلا من المباهاة، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد الوطني إلى كل دينار يُستثمر في الصناعة أو الزراعة أو التكنولوجيا.

الولائم والمناسبات: هدر منظم للموارد

أما الولائم والمناسبات الاجتماعية، فهي صورة أخرى من صور النفاق الاجتماعي. ففي الأعراس والعزاءات، يتم إعداد كميات ضخمة من الطعام تفوق الحاجة بأضعاف، لتتحول في النهاية إلى نفايات. والمبرر واحد: “الناس لازم تشوف”. ولا يعد ذلك هدراً للطعام فحسب، بل هدراً للمال والجهد والموارد المستوردة بالعملة الصعبة كاللحوم والأرز والزيوت.

وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن حجم الهدر في هذه المناسبات قد يصل إلى مئات الملايين سنوياً، وهي ثروة كان يمكن أن تخفّض البطالة، وتدعم الفقراء، وتُسهم في تطوير المشاريع الإنتاجية بدلاً من أن تُلقى في القمامة.

ثقافة السيارات: استعراض على حساب الاقتصاد

ومن المظاهر البارزة للنفاق الاجتماعي أيضاً ثقافة السيارات. فمعظم الأسر تمتلك أكثر من سيارة، وبعضها يشتري مركبات فارهة ودفع رباعي لا تناسب الظروف ولا الحاجة الفعلية. وبالإضافة إلى أسعارها المرتفعة، فإن تكاليف تشغيلها عالية نتيجة استهلاك الوقود وحجم المحرك، كما أن استيرادها يستنزف مبالغ طائلة من العملات الأجنبية.

ولو وُجّه جزء بسيط من هذه النفقات إلى تطوير منظومة نقل عام فعّالة، لأدى ذلك إلى تقليل الازدحامات، وتوفير الوقود، ودعم الشركات المحلية بدلاً من استمرار النزيف عبر الاستيراد.

السيارات الحكومية: وجاهة على حساب الخزينة

ولا يمكن إغفال جانب السيارات الحكومية التي تُستخدم أحياناً كرمز للمكانة أكثر مما هي وسيلة لخدمة العمل. فبعض المسؤولين يمتلك أكثر من سيارة بسعر خيالي بحجة أنها ضمن “المشاريع الممولة”، متناسين انه من المسحيل ان تقدم سيارة بالمجان وان سعرها وعليه هامش ربح يحسب في تمويل المشروع سواء من الخزينة او من القروض والمنح .

وخلال عملي، كنت ضمن وفد رسمي إلى إسبانيا عام 2018 للاطلاع على التجربة الإسبانية في الطاقات المتجددة، وقد استقبلنا رئيس شركة Red Electrica—وهي الشركة الرئيسية للكهرباء في إسبانيا—وعند مغادرتنا المكان فوجئنا بأنه يقود سيارة صغيرة من نوع Smart دون سائق. وهنا أترك التعليق للقارئ.

أثر اقتصادي مباشر

إن النفاق الاجتماعي لا يتوقف عند كونه خللاً في السلوك، بل يتحول إلى عبء اقتصادي مباشر يضعف الإنتاج ويزيد الاستهلاك غير الضروري. فالمبالغات في التعليم والبناء والمناسبات والسيارات تمثل نزيفاً مستمراً للموارد يكرّس ثقافة “الوجاهة” بدلاً من ثقافة “القيمة”.

لا بد من وقفة جادة على المستويين الرسمي والشعبي.
فعلى الدولة أن:
• تضع تشريعات مالية وضريبية تحد من المبالغات في السلع الكمالية.
• تقنّن استيراد السيارات الفارهة.
• تدعم التعليم المهني والتقني.
• تعزز ثقافة النقل العام.
• تضبط استخدام المركبات الحكومية وتستبدلها ببدلات مالية محددة.

وعلى المجتمع أن يعيد النظر في منظومة قيمه، وأن يربّي أبناءه على الإنتاج والبساطة، لا على التباهي والمظاهر.

إن النفاق الاجتماعي ليس فقط خللاً أخلاقياً، بل هو نزيف اقتصادي يعيق النهضة ويستهلك طاقات الوطن في غير مكانها. وآن الأوان لأن ندرك أن التقدم الحقيقي لا يُقاس بحجم الولائم ولا بمساحة البيوت ولا بنوع السيارات، بل يُقاس بقدرتنا على الإنتاج، وصدقنا مع أنفسنا، وبما نبنيه من قيم ومؤسسات واقتصاد يخدم الإنسان ويحفظ كرامته.

والله من وراء القصد.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :