هل يصلح ديسمبر ما أفسده نوفمبر؟
د. جاسر خلف محاسنه
01-12-2025 06:59 PM
في تلك الليلة التي حاول فيها القلب أن يجد طريقًا آخر للنجاة، قرر أن يمنح نفسه شهرًا مختلفًا؛ شهرًا لا يرفع صوته ولا يأتي على عجل. كان ديسمبر يقف على حافة العمر مثل مسعفٍ هادئ يصل متأخرًا، لكنه يصل.
أما نوفمبر، فكان يقف في زاوية السماء مثل موظفٍ بيروقراطيٍّ متهمٍ بإتلاف ملفات الروح، يلوّح بأوراقه الصفراء ويترك زمجرة باردة خلفه، ويقول: "لم أقصد أن آخذ منكم أحدًا… هذا ما سُجِّل في الملف." لكن أحدًا لم يصدّقه، لأن نوفمبر لا يأتي إلا محمّلًا برائحة الفقد.
لم نخترع ديسمبر، بل لجأنا إليه كما يلجأ المرء إلى ظل شجرة حين يشتد الحرّ. بحثنا فيه عن هدنة صغيرة مع الأيام التي جرفت أحبتنا، وعن فسحة نراجع فيها الشقوق التي أحدثها نوفمبر بخفة جلّاد يعرف عمله جيدًا.
في ديسمبر، يعود الراحلون جميعًا بطريقةٍ ما: يعود والدك الذي كان الوطن متكئًا على كتفه، وتعود الأم التي ما تزال ضحكتها جدار البيت، ويعود المنزل في جرش بجدرانه البيضاء، ومشربيته التي تطل على طفولتك، وشجرة المشمش التي تحفظ سرّ الشمس في أغصانها.
وتعود جرش كما عرفتها في طفولتك: طرقاتها الترابية التي تحمل غبار اللعب، خطواتك الصغيرة التي كانت تركض بين الأعمدة الرومانية دون أن تدرك عبء تاريخها، رائحة الصباح حين يختلط تراب المدينة بندى الجبال، وطعم الخبز الطازج في فمك، والدهشة التي لم تكن تعرف اسمًا آخر سوى طفولتك.
وقبل أن تصل الذاكرة إلى رذاذ نافورة ستي أم عبدالغني، تمرّ أولاً بـ ليمونة ستي أم سلامة؛ تلك الليمونة التي كانت أكبر من شكلها، كأنها قلب صغير نابض على عتبة البيت. كانت تضعها قرب النافذة دائمًا، تصفرّ مع الشمس وتحفظ رائحة الدار في قشرتها، وتقول لك دون كلام: إن الأشياء الصغيرة قادرة على إنقاذ يومٍ كامل، وإن الحزن مهما اشتدّ، يبقى له منفذ، ولو خيط ضوء.
ثم تأتي جرش الطفولة بكل بساطتها: صعودك نحو الضوء، انحناءك لالتقاط حجر، رائحة الياسمين المعلّقة على أسوار البيوت، وطمأنينة تلك الأيام التي لم تكن تعرف أنها ستغدو أثمن مما تخيّلت.
غير أن العائدين لا يتكلمون. يكتفون بأن يجلسوا قبالتك كي تتذكر أن الحبّ لا يصدأ، وأن الفراق تلميذ نجيب في مدرسة الأقدار حين تقرر أن تكون صارمة.
وفي ديسمبر، تكتشف أنك تغيّرت: كبرت بما يكفي لتفهم أن العمر ليس خديعة، لكنه مفاوضٌ عنيد؛ يطالبك بالكثير ويمنحك القليل، ثم يبتسم كما لو أن الاتفاق كان عادلًا.
تتصالح في هذا الشهر مع المدن التي خذلتك، ومع الطرق التي وعدتك كثيرًا ثم انتهت عند بوابة لا تُفتح، ومع وطنٍ تركته مرّاتٍ كثيرة وأحببته مرّات أكثر. وتتصالح مع خيباتٍ خبّأتها تحت الوسادة كي لا يراها أحد، لكنها كانت تخرج ليلًا وتتكاثر.
وتقول لنفسك: ربما لا يصلح ديسمبر كل ما أفسده نوفمبر، لكنه يجعل الندبة أقل ألمًا، ويمنحك المساحة كي تتنفّس، ويتسع قلبك لما رحل، وما عاد، وما ينتظر عند الباب حائرًا بين الدخول والغياب.
وفي آخر المشهد، تلمح حكمة خفية لا تحتاج أن تُقال بصوتٍ عالٍ: أن الانتظار الطويل ليس عبثًا، وأن ما يأتي متأخرًا ليس عديم الجدوى. لأننا لم نكن مستعجلين، رغم غضبنا؛ كنّا فقط نحاول أن نبقى واقفين حتى يلين القدر.