facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مؤشرات الحياة للدولة


د. صالح سليم الحموري
02-12-2025 03:35 PM

لم تعد الدول تملك رفاهية الانتظار في عالم يتحرك بسرعة مقلقة؛ عالم قد يتغير فيه مستوى القوة أو الضعف خلال بضعة أشهر فقط. ولهذا أصبحت الحكومات تتعامل مع مؤشرات التنافسية كما يتعامل الأطباء مع العلامات الحيوية للمريض: أدوات لا غنى عنها لقياس الصحة، وتحديد مكامن الخطر، ورسم مسار العلاج.

هذه المؤشرات لم تعد مجرد بيانات أو تقارير سنوية، بل تحوّلت إلى ما يمكن تسميته بـ "مؤشرات الحياة للدولة"؛ لوحة قياس دقيقة تكشف قوة الاقتصاد، وجودة التعليم، ومستوى الخدمات، ومدى جاهزية البنية التحتية، وقدرة الدولة على الابتكار ومواكبة المستقبل.

وحين نتأمل حال الدول، نجدها ليست مجرد حدود وموارد ومؤسسات، بل جسد حيّ يتكوّن من أجهزة وأنظمة تعمل بتناغم عجيب. جسدٌ تتوزع فيه المسؤوليات كما تتوزع الوظائف الحيوية في الإنسان؛ كل عضو يعتمد على الآخر، وكل خلل في جزء منه يترك أثرًا مباشرًا على الكل. إنها منظومة دقيقة تحتاج إلى مراقبة مستمرة حتى تستمر الحياة فيها.

فـ النمو الاقتصادي هو نبض هذا الجسد، لا يُرى بالعين المجرّدة كما لا يُرى نبض الإنسان، لكنه يُحسّ أثره في كل زاوية من حياة المواطنين. فإذا تسارع، دبّت الحيوية، وتوسعت الفرص، واشتدت القدرة على الحركة. وإذا تباطأ، خفت الإيقاع، وتراجعت الإمكانيات، وشعر الناس بضيق في حياتهم كضيق يصيب القلب فيهدد سلامته.

أما الابتكار والتعليم فهما رئتاه؛ منهما يتنفس ويستعيد عافيته، وبهما تتجدد خلاياه وتتقدم نحو المستقبل. إنهما الهواء النقي الذي يدخل إلى جسد الدولة فينعش عقول أبنائها، ويرفع جاهزيتهم، ويمنحها قدرة على مواكبة التغيير بدل أن تختنق بالجمود.

وتسير البنية التحتية في جسد الدولة كما تسير الدماء في العروق؛ شبكات الطرق، الجسور، المطارات، والموانئ، كلها قنوات تتدفق عبرها حركة الناس والبضائع والخدمات. فإذا تعطلت، اختنقت الحركة وتكدّست العوائق، وشلّ الجسد عن أداء مهامه، تمامًا كما يحدث حين تُسدّ شرايين الإنسان.

وفي عمق هذا الجسد، تقف الحوكمة وسيادة القانون كـ ضغط الدم الذي ينظم الدورة ويحفظ توازنها. هي التي تمنع الفوضى، وتضبط الإيقاع، وتضمن أن يصل الحق إلى صاحبه كما يصل الدم إلى أطراف الجسد. لكن هذا التوازن لا يكتمل دون مؤشر خفيّ لكنه أساسي، يشبه مناعة الجسد، وهو الثقة؛ ثقة المواطنين بمؤسساتهم، وثقة المستثمرين ببيئة الأعمال. فحين ترتفع الثقة، يستجيب الجسد الوطني بسرعة للعلاج، ويتحمل الإصلاحات، ويتوسع في النمو. وحين تنخفض، يضعف أثر السياسات ويطول زمن التعافي.

أما جودة الحياة والصحة فهي حرارة الجسد التي تكشف حالته دون تزييف؛ ترتفع حين تتحسن معيشة المواطنين، وتنخفض حين يشتد عليهم العبء وتختل الخدمات. إنها المؤشر الأكثر صدقًا، لأنها تعكس مباشرة أثر القرارات على حياة الناس اليومية.

وهكذا تبدو الدولة حين ننظر إليها بعيون السرد: جسد واحد، يعيش ويتنفس، يقوى ويضعف، يتقدم أو يتراجع بناءً على تفاعل أجهزته. وكل مؤشر من هذه المؤشرات ليس رقمًا في تقرير، بل علامة حياة يمكن أن ترفع الدولة إلى التعافي والازدهار، أو تحذرها من خطر مبكر يستدعي التدخل.

تزداد أهمية هذه المؤشرات لأنها تمنح صانع القرار صورة موضوعية عن الوضع القائم، وتساعده على تحديد الأولويات، تمامًا كما يساعد التشخيص الطبي في توجيه العلاج الصحيح. كما تمثل هذه المؤشرات لغة عالمية يفهمها المستثمرون والجهات الدولية، فكلما تحسّن أداء الدولة، وتعززت الثقة في مسارها، ارتفعت القدرة على استقطاب الفرص والاستثمارات.

وتزداد قيمة هذه المؤشرات عندما تعمل كنظام إنذار مبكر. فالتراجع المفاجئ في مؤشر التنافسية العالمية، أو مؤشر سهولة الأعمال، أو مؤشر الحوكمة، قد يشير إلى خلل في أحد “أجهزة الدولة”. ومع وجود تحليل دقيق لهذه الإشارات، يمكن اتخاذ إجراءات استباقية تمنع تفاقم المشكلة، وتحافظ على استقرار “الجسد الوطني”.

وتتجه الدول المتقدمة اليوم إلى بناء لوحات قيادة وطنية (Dashboards) تجمع المؤشرات الحيوية وتعرضها بشكل متواصل، وليس مرة واحدة في العام؛ ما يحوّل المؤشرات من بيانات جامدة إلى أدوات فورية لصناعة القرار، تمامًا مثل أجهزة المراقبة التي تتابع حالة المريض لحظة بلحظة.

إن إدراك أهمية مؤشرات الحياة للدولة لم يعد خيارًا، بل ضرورة لضمان استقرارها وقدرتها على المنافسة في عالم لا يعترف إلا بالأقوى والأكثر استعدادًا للمستقبل. وكما ينقذ الطبيب مريضه عبر قراءة العلامات الحيوية بدقة، تستطيع الحكومات إنقاذ مستقبلها عبر قراءة مؤشرات التنافسية، وتعزيز الثقة، والعمل المستمر على تحسين أداء “الجسد الوطني”.

* خبير التدريب والتطوير - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :