الإمارات في عيدها الـ54: وطنٌ لا يتوقف عن الإبهار
فراس النعسان
02-12-2025 03:43 PM
في كل الثاني من ديسمبر، كأنّ الإمارات تُعيد كتابة سيرتها على صفحةٍ لا تشيخ. وطنٌ ينهض في عيده الرابع والخمسين، لا ليحصي ما مضى، بل ليختبر مجدّدًا نبض المستقبل وهو يتقدّم خطوة أخرى نحو ما يشبه المستحيل. تبدو الإمارات في هذا اليوم أشبه بنافذةٍ تُفتح على ضوءٍ لا ينطفئ، ضوءٍ يصعد من الرمل كأنه يتذكّر أصله لكنه لا يقيم فيه، بل يتّخذه منصّة للطيران.
هنا، حيث تعلّم الناس أن الزمن ليس ما يمرّ عليهم، بل ما يتركونه خلفهم من أثر، يصبح الاحتفال بالاتحاد ليس حدثًا سنويًا، بل تمرينًا على الحلم وقد تحوّل إلى بنية تحتية، وعلى الطموح وقد أصبح سياسة دولة. فالإمارات، كما لو أنها تُمارس هوايتها الأثيرة: مفاجأة العالم. كل عام، يُوضع لبنة جديدة في جدار الإنجاز، وكأن البلاد تُحاور نفسها: "ما الذي يمكن أن نضيفه إلى هذا الضوء؟" فلا يطول السؤال حتى تأتي الإجابة من صروحٍ تتعلّق بالسماء، ومن مشاريع تشبه الأنهار الاصطناعية التي تُروّي القحط بإرادة البشر، ومن سياسات تتجاوز الجغرافيا لتخاطب المستقبل مباشرة، من غير بوّابات.
في عيدها الرابع والخمسين، لا تحتاج الإمارات إلى التذكير بما فعلت، لأن أفعالها تتكلّم بلغتها الخاصة. دولةٌ جعلت من الابتكار طريقًا عامًا، ومن التسامح جسرًا، ومن التنمية حكاية يومية تُروى بلا ادّعاء. حين تنظر إلى سجل إنجازاتها، تشعر أن هذا البلد يكتب قصيدته في نهار العمل، ويترك للّيل مهمة التأمّل فقط.
كم يشبه المشهد سفينةً تُبحر من دون أن تُقلع مراسيها يومًا. فالإمارات تتقدّم بخيالٍ عمليّ، لا يطير من غير أجنحة، لكنه لا يرضى أن يبقى على الأرض أيضًا. ولذلك، حين تحتفل بالاتحاد، فهي تحتفل بما لم يتحقّق بعد أكثر مما تحتفل بما تحقق، لأن الدهشة هنا ليست مجرّد شعورٍ عابر، بل برنامج حياة، ولأن الإبهار ليس حدثًا بصريًا، بل جزءًا من بنية الوعي.
ثمة ما يمكن تسميته "مزاج الإمارات" في هذا اليوم. مزاجٌ يشبه يقظة الصحراء حين تستيقظ على المطر. شيءٌ من الامتنان للمؤسسين، وشيءٌ من الوفاء لقصة بدأت بأحلام بسيطة، ثم قرّرت أن تُصبح مشروع دولة تنافس الزمن نفسه. وشيءٌ آخر من التصميم الهادئ على أن سنةً جديدة يجب أن تنضاف إلى سلسلة الأعوام التي تُدهش الآخرين، لا بالخطابات، بل بما يتحقق فوق الأرض وتحتها، في السماء وفي المختبر، في الاقتصاد كما في الثقافة، في الإنسان قبل الحجر.
والمثير أن الإمارات لا تحتفل بالاتحاد بوصفه ذكرى، بل بوصفه طاقة مُجتمعة تُعاد شحنتها كل عام. اتحادٌ لم يعد مجرد تاريخ مكتوب في الكتب، بل حاضرٌ يشتغل على نفسه كما لو أنه يولد كل يوم. وهذا ما يجعل الاحتفال هنا مختلفًا؛ فكل 2 ديسمبر ليس نسخة عن سابقه، بل طبعة جديدة من كتابٍ لا يكفّ عن إعادة طباعة نفسه، مع إضافة فصلٍ آخر من الإنجاز.
ولعلّ أكثر ما يُثير الانتباه أن هذا البلد لا يكتفي بأن يبني لنفسه، بل يصنع نموذجًا للآخرين: نموذجًا في القدرة على تحويل التنوّع إلى قوة، وعلى رؤية العالم من نافذة الانفتاح لا من ثقب الباب. هنا، يتجاور مئات الجنسيات كأنهم عائلة لا يجمعها الدم، بل يجمعها الحلم. حلمٌ يتسع للجميع، ولا يضيق بالفكرة، ولا يهاب التجربة.
في الرابع والخمسين، تبدو الإمارات مثل شجرةٍ تمدّ جذورها في صحراء تعرف قسوتها، لكنها لا تُهزم. شجرةٌ لا تنمو إلى الأعلى فقط، بل إلى الداخل أيضًا، حيث يتشكّل الوعي الوطني كطبقةٍ إضافية من الأرض الصلبة، وحيث يتعمّق الإيمان بأن الاتحاد ليس مجرّد صيغة سياسية، بل هو طريقة في النظر إلى الذات وإلى المصير.
ولهذا، يبقى السؤال الأجمل: كيف يمكن لدولةٍ شابّة أن تواصل الإبهار بهذا الإصرار؟ الجواب ليس في المشاريع وحدها، بل في الروح. روحٌ تقرأ الغد كما لو أنه مرآة اليوم، وتخاطب العالم من موقع الشراكة لا التبعية، وتبني لنفسها في كل عام سقفًا أعلى من سابقه، ثم تتجاوزه من غير ضجيج.
في عيدها الرابع والخمسين، تُذكّر الإمارات العالم بأن الاحتفال ليس زينة تُعلَّق، بل قصة تُكمل فصولها بيدٍ تعرف اتجاه الحلم، وبخطواتٍ تعرف حجم الضوء. دولةٌ لا تتوقف عن الإبهار لأنها ببساطة لا تتوقف عن العمل، ولا تتوقف عن الحلم، ولا تتوقف عن أن تكون هي: الإمارات التي تحتفل كل عام بإنجازٍ جديد، وتفتح بابًا آخر نحو ما لم يُكتب بعد.