مع كلِّ صدورٍ لقانون الموازنة العامة للدولة، تتزايد أصابعُ الاتهام وتتعالى الأصواتُ في بند العجز المتوقَّع، وما بين تحليلٍ رقميٍّ وتحليلٍ كلاميٍّ تتباين القراءاتُ وتتزايد الاجتهادات، وما بين ما هو منطقيٍّ وواقعيٍّ، وآخرَ هوائيٍّ ومزاجيٍّ، يتساءل البعضُ عن حقيقةِ العجزِ في الموازنة..!

لم يكن عجزُ الموازنة في يومٍ من الأيام، مجرد رقمٍ يُدرَج في جداولَ زمنية، بل مؤشِّرًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا يعكس مدى قدرةِ الحكومة على إدارة المال العام بكفاءةٍ واقتدار، ويعكس فاعليةَ الحكومة على إدارة الموارد وتوجيه النفقات وفق أولوياتٍ وطنيةٍ واستراتيجيةٍ واضحة.

عند تقديم الموازنة كلَّ عام يظهر أن هناك ارتفاعًا بالنفقات الجارية يرافقه ارتفاعٌ في الإيرادات العامة بنسبٍ مختلفة، كما يبدو جليًّا أن هناك عجزًا في تغطية كافة النفقات العامة سواء الجاري منها أو الرأسمالي!

إن القراءة المتأنية للتجارب الاقتصادية في كثيرٍ من الدول، تُبين أنَّ العجز بحدِّ ذاته ليس مشكلةً مطلقة، بل يكون كذلك عندما يتحول إلى حالةٍ دائمةٍ لا تُعالج جذورها، أو عندما يُدار دون رؤيةٍ استشرافية تأخذ في الاعتبار ديناميكياتِ الاقتصاد الكلّي. فالدول الناجحة تقيس كفاءةَ موازناتها بقدرتها على تحويل العجز إلى فرصٍ واعدةٍ واستثماراتٍ ناجحة، وعلى استخدام الإنفاق العام كمحفّزٍ للتنمية المستدامة والإنجازات المتراكمة، لتطوير المنظومة الاقتصادية وتعزيز الشراكات الاستراتيجية، لتوسيع القطاعات الإنتاجية وتدعيم البنية التحتية.

على الرغم من أن العجز يُنظر إليه تقليديًّا كاختلالٍ بين الإيرادات والنفقات، إلا أنه يعكس في كثيرٍ من الأحيان مستوى تطور الدول في حالاتٍ عديدة. إذ تظهر الدراساتُ المقارنة أن الدول التي تتمتع بمستوى عالٍ من الشفافية والموضوعية، وبسياساتٍ ماليةٍ منضبطة وأدواتٍ وطنيةٍ واضحة، قادرةٌ على إدارة العجز دون أن يتحول إلى تهديدٍ اقتصادي أو هَمٍّ وطني.

إن توجَّه الدولةِ نحو مشاريعَ إنتاجيةٍ تعود بعوائدَ مستقبلية، وليس نحو بنودٍ جاريةٍ تستنزف الموازنة، وتوسيعَ قاعدة الإيرادات من خلال تحفيز الاقتصاد الحقيقي الذي ينظر لجميع القطاعات برؤيةٍ كاملة، خيارًا استراتيجيًّا يضمن استدامة ماليةً واستقامةً قانونية، لتصبح الرؤيةُ للنفقات والإيرادات أكثرَ توازنًا وأعمقَ رؤيةً.