حكاية الإنسان والوكيل الذكي
د. صالح سليم الحموري
06-12-2025 11:52 AM
عندما تحدّث صديقي معالي الدكتور معن قطامين والذي سأُطلق عليه في هذا المقال لقب "المارد الرقمي" – عن صعود وكلاء الذكاء التوكيلي، فعل ذلك بلهجة تشبه إعلان فجرٍ جديد تتقدمه الآلات وتنسحب فيه الوظائف كما ينسحب ظل الليل أمام شمس حارقة. رسم ملامح مستقبل تُديره "شركاتٌ يقودها شخص واحد"، وتعمل فيه شبكات من الوكلاء الذكيين بلا كلل، يقررون وينفذون ويُنجزون المهام بصلابة لا تعرف التعب ولا التردد.
كأننا نقف – كما يقول – على حافة زمن جديدٍ لا مكان فيه للإنسان العامل.
شعرت أننا لا نقف على حافة نهاية، بل على مشارف بداية قصة جديدة… قصة تشبه إرهاصات ثورة صناعية خامسة، ثورة لا تُقصي الإنسان ولا تُطفئ حضوره، بل تعيده إلى مقعده الحقيقي: مقعد القيادة.
ففي اللحظة التي يظن فيها البعض أن الآلة تستولي على المشهد، يبدأ الإنسان رحلة صعود جديدة، لا بصفته عاملاً يكرر، بل قائداً يوجّه، ومبتكراً يرسم حدود المستقبل.
فلطالما خفنا من الآلات.
خُفنا منها عندما اخترعوا المحركات، ثم عندما ظهرت الحواسيب، ثم عندما جاء الإنترنت.
وكل مرة كنا نقول: انتهى دور الإنسان.
وكل مرة، يحدث العكس.
لم تختفِ الوظائف… بل تغيّرت.
لم تتعطل المجتمعات… بل نمت.
ولم يُقصَ الإنسان… بل ارتقى ليؤدي دوراً أعلى.
واليوم، يعود المشهد ذاته مع وكلاء الذكاء.
لكن الفارق أن هذه المرة، الآلة لا تزاحمنا على العمل، بل تخلّصنا من المهام التي لا تستحق وقت الإنسان.
نعم، وكلاء الذكاء قادرون على إنجاز التسويق، والبرمجة، وخدمة العملاء، والتحليل.
لكنهم مهما بلغوا، لا يعرفون ما الذي يجب فعله… بل يعرفون فقط كيف يفعلونه.
وهنا يبدأ دور الإنسان.
فالوظائف لم تعد مجرد "مهام"؛
بل أصبحت "أدواراً":
دور المفكر، المبتكر، المصمم، القائد.
انتهى عصر الإنسان الذي ينفذ.
وبدأ عصر الإنسان الذي يقرر.
يتحدث الزميل "المارد الرقمي" عن مفهوم "شركة يديرها شخص واحد" وكأنه قدر أسود يُعلن انهيار البنية الاقتصادية التقليدية.
أما أنا فأراه باباً يُفتح لأول مرة في تاريخ البشر.
لم يعد الشاب بحاجة إلى فريق كبير أو رأس مال ضخم ليؤسس عملاً ناجحاً.
لم يعد يحتاج إلى مبرمج، أو مسوّق، أو مدير حملات.
يكفيه أن يمتلك الرؤية، ليقوم الوكلاء بالباقي.
لم يعد السؤال: من يوظفني؟
بل أصبح :ماذا يمكنني أن أبني؟
ظهر ما يسمى بـ Vibe Coding، وهي البرمجة عبر الوصف.
أنت تقول: "أريد موقعاً يشبه أفضل المواقع العالمية."
والوكلاء يكتبون الكود، وينقحونه، وينشرونه.
أليست هذه معجزة؟
أليست هذه حرية؟
أليست هذه فرصة لإطلاق آلاف العقول التي كانت محبوسة خلف جدار "ليس لدي مهارة البرمجة"؟
لماذا نخاف من أن يصبح الإبداع متاحاً للجميع؟
إذا كان هناك خطر حقيقي، فهو ليس في الذكاء الاصطناعي، بل في التعليم الذي ما زال يدرّس مهارات القرن الماضي.
زميلي المارد الرقمي محق هنا.
لكن الهدف ليس إنقاذ المهن القديمة.
بل تجهيز الإنسان لاستقبال أدوار جديدة:
التفكير، التحليل، التوجيه، الخيال، وإدارة الوكلاء بدل منافستهم.
نحن لا نحتاج إلى تعليم يُخرج موظفين…
نحتاج إلى تعليم يطلق قادة.
في الحكايات القديمة، كان المارد يخرج من المصباح ليحقق الأمنيات.
لكن مارداً كهذا لا يقرر عنك، ولا يختار لك حياتك.
وكذلك الذكاء التوكيلي اليوم.
إنه ينفذ، لكنه لا يحلم.
يبحث، لكنه لا يبدع.
ينظم، لكنه لا يفهم ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً.
الوكيل الذكي يستطيع أن يبني لك شركة…
لكن لا يستطيع أن يمنحها روحاً.
يستطيع أن يكتب لك خطة…
لكن لا يستطيع أن يصنع رؤية.
يستطيع أن يسوّق…
لكن لا يستطيع أن يحلم.
وهنا تكمن الخلاصة…
المستقبل ليس سباقاً بين الإنسان والآلة، بل رحلة يصعد فيها الإنسان درجة جديدة، بينما تتولى الآلة ما تبقى من الدرجات الثقيلة والمنهكة.
ليس هناك إبادة… بل تطور.
ليس هناك نهاية… بل بداية.
وليس هناك تهديد… بل فرصة تُفتح لمن يملكون الشجاعة لاقتناصها.
معاليك،
قد كتبتُ هذا المقال بمساعدة وكيل ذكي، نعم… لكنه لم يكتب روحه.
أما الفكرة، والرؤية، والنبض الذي بين السطور…
فكلها مني.
فالآلة قد تساعدنا على صياغة الكلمات، لكنها لا تستطيع أن تُلهمها.