عندما يحترق الموظفون .. منظمات تتهاوى !
د. جهاد يونس القديمات
10-12-2025 05:03 PM
شهدت السنوات الأخيرة تحولا جذريا في طبيعة العمل، وفي حجم الضغوط النفسية والانفعالات التي يتعرض لها الموظفون يوميا، حتى أصبحت هذه الضغوط واحدة من أهم القضايا المؤثرة في مستقبل المنظمات واستدامتها، فالتغيرات المتسارعة في بيئات الأعمال، وارتفاع المنافسة، وتعدد المهام، وزيادة التوقعات من الموظفين، وضغط الوقت، جميعها عوامل جعلت بيئة العمل أكثر تعقيدا مما كانت عليه في السابق، وبينما يتطور العالم من حولنا، لا تزال العديد من الإدارات تعتمد نماذج تقليدية في إدارة الموارد البشرية، دون إدراك كاف لاحتياجات الموظف النفسية والعاطفية التي أصبحت اليوم جزء أساسيا من معادلة النجاح المنظمي.
في هذا السياق، تبرز أهمية مفهومي إدارة الغضب Anger Management وإدارة التوتر Stress Management كأدوات مهمة في التعامل مع آثار الضغط النفسي داخل المنظمات، هذه المفاهيم لم تعد مجرد برامج تدريبية أو نصائح تقدم في ورش عمل قصيرة، بل تحولت إلى ممارسات منظمية ضرورية يجب دمجها في ثقافة العمل اليومية، فالغضب والتوتر بحد ذاتهما ليسا المشكلة؛ المشكلة تبدأ عندما تترك المشاعر السلبية دون إدارة أو فهم أو تدخل تنظيمي، فتتراكم وتتحول تدريجيا إلى بيئة عمل سامةToxic Workplace تضعف استقرار المنظمة، وتستنزف طاقاتها البشرية، وتفتح الباب أمام ظهور الاحتراق الوظيفي Burnout، بما يحمله من إنهاك ذهني وجسدي، وفقدان الحافز، وتراجع في الدافعية.
إن البيئة السامة في العمل ليست دائما ضوضاء وصوتا مرتفعا أو نزاعات صريحة، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل تتجلى غالبا بشكل هادئ وخفي، تظهر السمية في التهميش، والصمت العدائي، وغياب التقدير، وازدواجية المعايير، والظلم في تقييم الأداء، وسوء توزيع الموارد، وضعف التواصل، أو في الضغط المتزايد الذي لا يتناسب مع إمكانيات الموظف أو الدعم المتاح له، وفي مثل هذه الظروف، يشعر الموظف بأن جهوده غير مرئية، وأنه يعمل في بيئة تستهلك طاقته دون أن تمنحه أي إحساس بالإنجاز أو التقدير، هذه المشاعر السلبية لا تؤثر فقط على الفرد، بل تمتد لتصيب الفريق كله، وتخلق حالة من الإحباط الجماعي الذي ينعكس بشكل مباشر على جودة الإنتاج وفاعلية المنظمة.
تظهر العديد من الدراسات أن بيئات العمل السامة ترتبط بشكل قوي بالاحتراق الوظيفي، وبضعف الرضا الوظيفي، وانخفاض الارتباط بالمكان، وزيادة الرغبة في ترك العمل، وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن العامل النفسي أصبح اليوم أحد أهم المحركات المؤثرة في الأداء المهني، وأن تجاهل هذا البعد يؤدي إلى نتائج كارثية على استقرار المنظمة، فالموظف عندما يشعر بأنه غير آمن نفسيا أو غير مقدر، يبدأ تدريجيا بفقدان الحماس، والتراجع عن المبادرة، وتجنب الإبداع، لينتهي به الأمر في مرحلة الانسحاب النفسي من العمل، وهي المرحلة التي تسبق عادة قرار الاستقالة الفعلي.
بينت دراسة أُجريت عام 2024 أن القيادة السامة Toxic Leadershipوهي القيادة التي تمارس الاستبداد، أو النقد الدائم، أو المراقبة الزائدة أو التنمر المهني، ترتبط ارتباطا إيجابيا مع ارتفاع معدلات الإرهاق العاطفي Emotional Exhaustion، وهو أحد أهم عناصر الاحتراق الوظيفي، كما أثبتت الدراسة أن هذه القيادة ترتبط مباشرة بالسلوكيات السلبية في العمل Deviance at Work، وبانخفاض الالتزام الوظيفي، وبزيادة النزاعات بين العاملين، وتوضح دراسات أخرى أن السلوكيات السامة في القيادة هي من أقوى العوامل التي تدفع الموظفين نحو الاحتراق الوظيفي، ثم نحو ترك المنظمة بشكل كامل، مما يضع المنظمة في دائرة مستمرة من فقدان الكفاءات.
تشير بعض التقديرات إلى أن موظفا من كل أربعة تقريبا مر بتجربة سلبية في العمل أثرت في أدائه وصحته النفسية، وهو رقم كبير يعكس مدى انتشار المشكلة وخطورتها،كما بينت بحوث علمية أن الاحتراق الوظيفي يرتبط بانخفاض كبير في الأداء، وضعف القدرة على اتخاذ القرارات، وزيادة الأخطاء المهنية، ونقص التركيز، وتراجع الإبداع، بالإضافة إلى آثاره الصحية التي تشمل القلق، الاكتئاب، الإرهاق الجسدي، واضطرابات النوم. وهذا يؤكد أن الاحتراق الوظيفي ليس مجرد حالة نفسية، بل حالة مهنية تؤثر في جودة العمل ومخرجاته وتكلف المنظمات خسائر باهظة.
في الأردن، ومع تفاقم التحديات الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة ومحدودية فرص العمل، أصبحت بيئة العمل الصحية قيمة مضاعفة، فالمنظمات التي تهتم بصحة موظفيها النفسية وتدعمهم عاطفيا تحقق استقرارا وظيفيا أعلى، وقدرة أكبر على الاحتفاظ بالكفاءات، وسمعة أفضل في السوق، وانخفاضا ملموسا في دوران الموظفين Turnover ، أما المنظمات التي تتجاهل هذا الجانب الحيوي، فتجد نفسها أمام مشكلات متزايدة مثل فقدان الكفاءات، وتراجع الإنتاجية، وزيادة المشكلات الداخلية، وتدهور جودة العمل، مما ينعكس في نهاية المطاف على قدرتها على المنافسة والبقاء.
لا يقتصر الاحتراق الوظيفي على قطاع معين، بل يمتد إلى قطاعات متعددة مثل التعليم، والصحة، والخدمات، والشركات الصغيرة والمتوسطة، بل وحتى المنظمات التقنية التي يفترض أنها تتمتع ببيئات عمل مرنة، وقد أظهرت دراسة حديثة على معلمين وأساتذة جامعات خاصة في الدول العربية أن الاحتراق الوظيفي يؤدي إلى تراجع كبير في جودة التدريس، وفقدان الحافز، وزيادة الإرهاق، بل وانخفاض الرغبة في الاستمرار بالعمل الأكاديمي نفسه، وهذا يعكس أن الضغوط المهنية يمكن أن تصل إلى درجة تقوض جودة الخدمة أو المنتج الذي تقدمه المنظمة، ما يهدد سمعتها وفاعليتها.
مع تطور علم الإدارة وظهور توجهات حديثة، بدأت المنظمات حول العالم بالانتقال من نموذج الإدارة التقليدية إلى نموذج أكثر إنسانية ووعيا، يقوم على فهم العوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة في سلوك الموظف، وعلى اثر ذلك ظهرت مفاهيم جديدة مثل الرفاه الوظيفي Workplace Well-being والسعادة المنظمية Organizational Happiness، الذي يهتم بكل ما يؤثر في صحة الموظف النفسية والجسدية، وزيادة مستوى الرضا الوظيفي، ويشجع على توفير بيئة عمل داعمة تشمل مرونة ساعات العمل، وتقدير الجهود، وتطبيق سياسات تعزز التوازن بين الحياة والعمل، كما ظهر مفهوم السلامة النفسية Psychological Safety ، الذي يعد اليوم من أهم مقومات بيئة العمل الناجحة، حيث يمنح الموظف القدرة على التعبير عن رأيه دون خوف من العقاب أو السخرية، مما يعزز الابتكار والمبادرة.
تبرز هنا أهمية الذكاء العاطفي المنظمي Organizational Emotional Intelligence، وهي قدرة المنظمة على فهم مشاعر الموظفين، وتحليل دوافعهم، والتصرف مع الضغوط والمشكلات بطريقة أكثر إنسانية، حيث بدأت المنظمات الحديثة بالتركيز على بناء رأس المال النفسي Psychological Capital الذي يشمل الأمل، والمرونة، والتفاؤل، والشعور بالكفاءة الذاتية، وهي عناصر ثبت أنها تحسن الأداء وتزيد من القدرة على تحمل الضغوط.
مع ظهور التحديات الرقمية، بدأت منظمات عالمية باعتماد مفهوم الاستدامة النفسية في العمل Work Psychological Sustainability الذي يدعو إلى بناء بيئة عمل تستمر صحيا على المدى البعيد، ويقلل من الاستنزاف النفسي،كما ظهرت برامج متقدمة لإدارة الوقت وتخفيف التشتت، مثل العمل العميق والعمل الهادئ، إضافة إلى مبادرات دعم الصحة النفسية مثل جلسات العافية، والتأمل الواعي، والدعم النفسي الأولي Psychological First Aid .
جميع هذه الاتجاهات تشير إلى حقيقة أساسية: أن صحة الموظف النفسية أصبحت اليوم معيارا رئيسيا لنجاح المنظمات، فالاحتراق الوظيفي لم يعد مجرد ظاهرة نفسية، بل أصبح تحديا منظميا قد يقود إلى انهيار المنظمة إذا لم تتم معالجته بشكل جاد، فالمنظمات التي تفقد موظفيها تفقد رأس مالها الحقيقي، لأن الإنسان هو العنصر الذي يدير، ويبتكر، ويحل المشكلات، ويضمن استمرارية العمل.
بناء على ما سبق، يتضح أن المنظمات التي لا تعطي اهتماما كافيا لصحة موظفيها النفسية تسير في طريق محفوف بالمخاطر، وأن الاستثمار في رفاه الموظفين لم يعد خيارا، بل ضرورة استراتيجية. إن بناء بيئات عمل صحية، عادلة، وآمنة نفسيا هو السبيل لضمان الاستقرار الوظيفي، وتعزيز الإنتاجية، ورفع جودة العمل، وتحقيق النجاح المستدام، فالمنظمة التي تضع الإنسان في قلب سياساتها وإدارتها، هي المنظمة التي تملك القدرة الحقيقية على مواجهة تحديات المستقبل، مهما كانت معقدة.