هل ستفكّر الحكومات مستقبلًا مع الآلات؟
د. صالح سليم الحموري
13-12-2025 02:19 PM
بحكم عملي ودراستي لمجال استشراف المستقبل منذ عام 2015، وحرصي الدائم على متابعة التوجهات العالمية الناشئة، بات واضحًا أن النقاش حول الذكاء الاصطناعي في الحكومات لم يعد يتمحور حول سؤال: هل ستستبدل الآلة الإنسان؟
بل أصبح السؤال الأهم اليوم: كيف يمكن للإنسان والآلة أن يفكّرا معًا؟
ففي عالمٍ تتسارع فيه الأزمات، وتتداخل فيه القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، لم تعد الأدوات التقليدية لصنع القرار العام كافية لمواكبة هذا المستوى من التعقيد. فالحكومات اليوم تواجه تحديات غير مسبوقة، لا تستطيع العقول الفردية وحدها الإحاطة بها، ولا الخوارزميات المنعزلة - مهما بلغت قوتها- تقديم إجابات شاملة لها.
وانطلاقًا من هذا الإدراك، تتبنى كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية مقاربة تعليمية تعكس تحولات الواقع الحكومي. إذ تشجّع الكلية طلابها على توظيف الذكاء الاصطناعي في السياق الأكاديمي، وفي مشاريع التخرج ضمن برامج التعليم التنفيذي، كما جرى إدماج موضوعات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات في مختلف المقررات التي تُدرّس للطلاب والمتدربين، باعتبارها أدوات أساسية لفهم السياسات العامة وصناعة القرار في عصر التحول الرقمي.
من هنا، يبرز مفهوم جديد آخذ في التشكل، هو "مجتمع العقل الحكومي"، فلِسنوات، ساد تصور مفاده أن الذكاء الاصطناعي هو نظام تقني مستقل، يُطلب منه تحليل البيانات، أو التنبؤ، أو تقديم توصيات، بينما يظل الإنسان «مشرفًا» يتدخل عند الخطأ. غير أن هذا التصور، رغم انتشاره، لا يعكس طبيعة الذكاء كما يُمارس فعليًا داخل الحكومات.
فالذكاء الحكومي لم يكن يومًا فرديًا أو آليًا خالصًا، بل هو بطبيعته ذكاء جماعي تشكّله اللجان، وفرق العمل، والخبراء، والمؤسسات، والذاكرة التنظيمية التراكمية. والجديد اليوم ليس وجود هذا الذكاء الجماعي، بل دخول الأنظمة الذكية طرفًا فاعلًا فيه.
وهنا يحدث التحول المفاهيمي الأهم: بدل أن نسأل: كيف نُشرك البشر في أنظمة الذكاء الاصطناعي؟
علينا أن نسأل: كيف نُشرك الأنظمة الذكية داخل الجهات الحكومية التي يديرها الموظفون؟
في نموذج «مجتمع العقل الحكومي»، لا تُفهم الجهة الحكومية بوصفها جهازًا إداريًا جامدًا، بل كنظام معرفي حي:
• تتوزع فيه الأدوار بوضوح
• وتتفاعل فيه الخبرة البشرية مع التحليل الاصطناعي
• ضمن أطر مؤسسية وأخلاقية محددة
في هذا السياق، لا تحل الآلة محل الموظف، ولا يُختزل الموظف إلى منفّذ، بل يعمل الطرفان معًا، كلٌّ من موقع قوته.
فالموظف الحكومي يمتلك الفهم السياقي، والقدرة على تقدير القيم العامة، والحكم الأخلاقي، وإدراك الأثر الاجتماعي للقرار، بينما تمتلك الأنظمة الذكية القدرة على المعالجة السريعة، وتحليل كميات هائلة من البيانات، ورصد الأنماط الخفية، والتنبؤ المبكر بالمخاطر.
وحين يلتقي هذان البعدان، يتشكل ذكاء يفوق ما يمكن لأي طرف تحقيقه منفردًا.
ضمن هذا التصور، لا يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة تقنية هامشية، بل يُعاد تعريف دوره ليصبح:
• مستشارًا سياساتيًا يدعم تحليل البدائل وتقييم الآثار المحتملة للقرارات العامة
• ذاكرة مؤسسية تحفظ المعرفة التنظيمية وتمنع فقدان الخبرات بتغير الأشخاص
• أداة استشراف وإنذار مبكر ترصد الاتجاهات الناشئة وتساعد على الاستعداد قبل وقوع الأزمات
• شريكًا في التعلم المؤسسي المستمر يساهم في تحسين الأداء وتطوير السياسات بناءً على التجربة والبيانات
بهذا المعنى، لا نتحدث عن حكومة آلية، ولا عن حكومة تقليدية تستخدم بعض التقنيات، بل عن حكومة ذكية تفكّر بطريقة مختلفة.
فمستقبل الحكومات لن يُقاس بعدد الأنظمة الرقمية التي تمتلكها، بل بقدرتها على:
• التفكير الاستباقي بدل ردّ الفعل
• التعلم بدل التكرار
• إدارة التعقيد بدل تبسيطه المخلّ
ويقدّم «مجتمع العقل الحكومي» إطارًا واقعيًا لتحقيق ذلك، دون الوقوع في فخ التهويل أو الخوف من التقنية.
في النهاية، الذكاء ليس آلة، ولا فردًا، ولا خوارزمية. الذكاء - كما تثبت التجربة الإنسانية - هو نتاج تفاعل منظم بين عقول متعددة.
وحين تدرك الحكومات هذا التحول، وتبدأ في تصميم مؤسساتها على هذا الأساس، فإن الذكاء الاصطناعي لن يكون تهديدًا لها، بل فرصة تاريخية لإعادة بناء الحوكمة على أسس أكثر وعيًا، وأكثر إنسانية.
فمستقبل الحكومات ليس في عقل واحد خارق، بل في مجتمع عقل يعرف كيف يفكّر معًا.