facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حين يُستبدل الذوق العام بالتفاهة .. على الدنيا السلام


فيصل تايه
14-12-2025 10:54 AM

خلال متابعتي للقاءات متلفزة مع عدد من الفنانين الأردنيين ، كان القاسم المشترك بينهم واحداً ، وهو شعور عميق بالتهميش والإقصاء، وإحساس قاس بأن الدراما الأردنية الحقيقية تدفع عمداً إلى الظل، بينما يسلّط الضوء على ما هو سطحي وسريع وزائل ، فنانين يحملون تاريخاً وتجربة ورؤية، يتحدثون بألم عن مشهد بات يكافئ التفاهة، ويحتفي بمحتوى هابط، ويترك الفن الجاد يواجه مصيره بصمت ثقيل ، فهذا الألم ليس شخصياً ، بل هو انعكاس لما وصلنا إليه من تسخيف للمعنى، واستخفاف بالعقل، وتبديل خطير لأولويات الذوق العام .

اننا اليوم لم نعد نواجه مشكلة محتوى، بل نواجه لحظة خطرة يعاد فيها تشكيل وعي أجيال كاملة على قاعدة التفاهة، فيما نراقب المشهد بصمت، وكأن ما يجري لا يمس مستقبل المجتمع ولا جوهره ، فما يحدث في فضائنا العام ليس تراجعاً عابراً في الذوق ، ولا خللاً مؤقتاً في مسار الترفيه، بل تفكك بطيء وعميق في البنية الذهنية والثقافية، يجري دون مقاومة حقيقية، ودون إدراك لحجم الخسارة التي تتراكم يوماً بعد يوم داخل عقول شبابنا.

وسائل التواصل الاجتماعي تحولت من منصات للتعبير إلى سلطة غير مرئية، تفرض نموذجاً واحداً للنجاح، يقوم على الضحك السريع ، والحضور الفارغ، والمحتوى الذي لا يقول شيئاً ، ولا يريد أن يقول ، فهذا النموذج لا ينتج فناً ولا فكراً ولا وعياً ، بل يصنع إنساناً مستهلكاً، سريع التفاعل، ضعيف التركيز، منزوع الصلة بأسئلته الكبرى ، والأخطر أن هذا النموذج لم يعد هامشياً ، بل أصبح هو السائد والمكافأ والمحتفى به، حتى بات كل ما هو جاد وعميق ومتأن يبدو غريباً أو غير مرغوب فيه.

التفاهة تحولت إلى مرجعية عامة ، ومع تكرارها اليومي، لم تعد ترى على حقيقتها، بل جرى تطبيعها حتى أصبحت جزءاً من المشهد الطبيعي ، وحين يصبح الفراغ مألوفاً ، يفقد المجتمع تدريجياً قدرته على التمييز بين ما يضيف إليه وما يستنزفه ، وهنا لا نتحدث عن اختلاف أذواق، بل عن إعادة برمجة للوعي ، حيث يقاس النجاح بعدد المشاهدات لا بعمق الأثر، ويقاس التأثير بسرعة الانتشار لا بقيمة الفكرة.

في هذا المناخ، لم تهمش الدراما الأردنية الجادة لأنها ضعيفة، بل لأنها مزعجة ، مزعجة لأنها تطرح أسئلة، وتذكر بأن الفن ليس نكتة، وبأن المجتمع ليس مشهداً هزلياً، وبأن القضايا الاجتماعية والسياسية لا يمكن اختزالها بسكتشات عابرة ، فالفن الحقيقي يكشف ويربك ويضع الإنسان أمام نفسه، ولهذا جرى إقصاؤه أو تركه يختنق ببطء، بينما فتحت الأبواب على مصاريعها لمحتوى لا يحمل أي عبء فكري أو أخلاقي.

ما يحدث اليوم هو تدجين للعقل الجمعي ، حين يغذى الشاب يومياً بمحتوى بلا معنى، ليتعلم أن المعنى غير مهم ، وحين يكافأ الاستسهال، يتعلم أن الجهد عبء ، وحين يقدم الضحك والمسخرة بديلاً عن الفهم، يتعلم أن التفكير ترف لا لزوم له ، وهكذا لا نخرب ذوقاً فنياً فقط، بل نفرغ المجتمع من قدرته على النقد، وعلى السؤال، وعلى الدفاع عن نفسه فكرياً وأخلاقياً .

الأخطر من كل ذلك هو الصمت ، الصمت الثقافي، والصمت المؤسسي، والصمت الذي يغلف هذا الانحدار باعتباره حرية شخصية أو ترفيهاً بريئاً ، والصمت هنا ليس حياداً ، بل تواطؤ ، فترك الساحة فارغة أمام التفاهة، وغياب أي مشروع ثقافي حقيقي يعيد الاعتبار للفن والدراما والسرد الوطني، هو قرار ضمني بإنتاج جيل أقل وعياً ، أقل حساسية، أقل قدرة على الفهم والمساءلة ، فالذوق العام ليس تفصيلاً ثانوياً ، بل بنية تحتية للوعي، وعندما تهدم هذه البنية، ينهار كل ما يبنى فوقها.

نحن لسنا ضد الفرح، ولسنا ضد الضحك، ولسنا ضد التكنولوجيا، لكننا ضد تحويل التفاهة إلى هوية، والسطحية إلى قدر، والفراغ إلى مستقبل ، فالمجتمعات لا تنهار فقط بالفقر أو العنف، بل تنهار حين تفقد احترامها لعقلها، وحين يقنع شبابها بأن التفكير عبء، وبأن المعنى زائد عن الحاجة.

ما نعيشه اليوم ليس نقاشاً ذوقياً، ولا صراع أجيال، بل قضية أمن ثقافي واجتماعي بامتياز ، والاستمرار في هذا المسار يعني القبول بتنشئة جيل يضحك كثيراً ، ويفهم قليلاً ، ويتفاعل بلا وعي، ويعيش بلا أسئلة ، وحينها، لن يكون الخطر في محتوى تافه هنا أو هناك، بل في إنسان فقد قدرته على أن يكون واعياً ، ناقداً، ومسؤولاً .

بقي ان اقول : ان التفاهة لا تدمر المجتمعات فجأة، بل تعمل بصبر ، ونحن، حتى هذه اللحظة، نمنحها كل الوقت، وكل المساحة، وكل الصمت.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :