في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتنافس فيه الشاشات على انتباهنا، ظهر مفهوم جديد يلخّص حالة الإنسان المعاصر بدقّة مدهشة: "الكوكاين السلوكي". إنه ليس مادة محظورة أو مخدرًا يُتعاطى، بل مزيج من السلوكيات اليومية التي تمنح الدماغ جرعات متكررة من الدوبامين، فتخلق حالة من الاعتياد الشبيه بالإدمان، لكن من دون أن يشعر صاحبها بأنه وقع في شركها. فبين كل نقرة على شاشة، وكل إشعار يضيء هاتفًا، وكل إعجاب يُسجَّل على منشور، تُعاد برمجة الدماغ ليبحث عن المتعة السريعة بدل الإنجاز الحقيقي.
لم نعد بحاجة إلى مخدر كي ندمن؛ فالعالم الرقمي صُمّم ليكون أكثر قوة من المواد الكيميائية. التطبيقات باتت قادرة على إنتاج متعة فورية، وتقديم مكافآت لحظية لا تنتهي، حتى بات الإنسان أسيرًا لمنظومة متكاملة تُبقيه في حالة بحث دائم عن المزيد. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن الإدمان الحديث لا يأتي من الخارج، بل من أنماط سلوك يمارسها الفرد طوعًا، وهو يظن أنه يسيطر عليها بينما هي التي تسيطر عليه.
تعتمد الشركات الكبرى على اقتصاد يقوم على انتزاع الانتباه. فالقيمة اليوم ليست في المنتج بقدر ما هي في وقت المستخدم ووعيه. لذلك تُبنى الخوارزميات بعناية لتجعل الدماغ في حالة ترقّب دائم وتحفيز مستمر، فيغدو الإنسان متلقيًا سلبيًا يلاحق المتعة اللحظية بدل أن يقود سلوكه بوعي. وفي هذه الدورة، تتغيّر توقعاته، ويضعف تركيزه، وتتفتت قدرته على الصبر والإنجاز، لأن الدوبامين السريع أصبح معيار المتعة الجديد.
ومع الوقت، تظهر آثار هذا الإدمان السلوكي على الحياة النفسية والاجتماعية بوضوح؛ مستويات أعلى من القلق، علاقات أقل عمقًا، شعور متزايد بالنقص، وتراجع القدرة على التركيز العميق. إنه نوع من الإدمان لا يدمّر الجسد كما تفعل المخدرات، لكنه يعبث بالمعنى، ويشوّش البوصلة، ويغرق الفرد في عالم من المقارنات غير الواقعية والمكافآت الزائفة. والأسوأ من ذلك أن الكثيرين لا يدركون أنهم أصبحوا مدمنين، لأن السلوكيات التي أدمنت عليها المجتمعات باتت مقبولة، بل مرغوبة.
التحرّر من الكوكاين السلوكي لا يحتاج ثورة على العالم الرقمي، بل يحتاج وعيًا جديدًا بالطريقة التي نتفاعل بها مع هذا العالم. يبدأ الأمر بإعادة ضبط علاقتنا بالشاشات، وتقليل المساحات التي تمنحنا الدوبامين السريع، وتعزيز مصادر المتعة العميقة التي تبني الإنسان بدل أن تستهلكه: إنجاز حقيقي، علاقة إنسانية صادقة، تعلم، تأمل، أو حتى لحظة صمت. فالعقل الذي يستجيب باستمرار للمحفزات السريعة يفقد قدرته على التذوق البطيء للحياة.
في النهاية، الكوكاين السلوكي ليس خطرًا لأنه قوي، بل لأنه صامت. لا يُشمّ ولا يُحقن، بل يُمارس. وإن لم ننتبه له، فإنه سيغيّر طريقة عيشنا من دون أن نشعر. نحن اليوم أمام تحدٍّ جديد: أن نستعيد قدرتنا على قيادة حياتنا قبل أن تقودنا الخوارزميات. و"الوعي" هو الخطوة الأولى، وربما الأهم، في مواجهة هذا الإدمان الهادئ الذي يقتات على انتباهنا ووقتنا وعمقنا الإنساني.
* خبير التدريب والتطوير - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية