أين دور الملحقين الاقتصاديين في سفاراتنا؟
أ.د. محمد الفرجات
19-12-2025 10:55 PM
من أوروبا إلى الخليج وعمق إفريقيا وغيرها… الأردن يستحق ترويجًا يوازي إمكاناته...
في عالم لم تعد فيه الدول تُقاس بما تملكه من موارد فقط، بل بقدرتها على التسويق الذكي لنفسها وبناء حضورها الاقتصادي خارج حدودها، يبرز سؤال جوهري لا يمكن تجاهله: أين دور الملحقين الاقتصاديين في السفارات الأردنية بالخارج؟ وهل يقومون بالدور الذي أنشئت هذه المواقع من أجله، أم ما زلنا نمارس الدبلوماسية الاقتصادية بأدوات تقليدية في زمن المنافسة الشرسة على السياحة والاستثمار والأسواق؟
الأردن لا يعاني من شح الفرص، بل من ضعف الترويج المنهجي المنظم لهذه الفرص، ومن فجوة واضحة بين ما نملكه فعليًا وما نقدمه للعالم.
الأردن اليوم يمتلك منتجًا وطنيًا متكاملًا، يجمع بين السياحة الفريدة، والصناعة القادرة على التصدير، والزراعة ذات القيمة العالية، والفرص الاستثمارية الحقيقية في عمّان والعقبة والبترا والمدن التنموية. هذه المقومات، مجتمعة، قادرة على خلق حضور اقتصادي مؤثر للأردن في أوروبا والخليج وعمق إفريقيا، لو قُدِّمت ضمن رؤية واضحة وأدوات احترافية.
في أوروبا، يبحث الشركاء والمستثمرون والسياح عن الاستدامة، وعن التجربة الثقافية العميقة، وعن المنتجات الموثوقة ذات المعايير العالية. هنا، يفترض بالملحق الاقتصادي أن يكون الجسر الحقيقي الذي يربط هذه الأسواق بالأردن، عبر الترويج الذكي لمواقعنا السياحية، وفنادقنا ومخيماتنا البيئية، وبرامجنا السياحية المتنوعة، إلى جانب تسويق الصناعات الدوائية والغذائية والمنتجات الزراعية، وعرض الفرص الاستثمارية بلغة الأرقام والقصص الناجحة. أوروبا لا تستجيب للشعارات، بل للمحتوى المهني الواضح بلغاتها المختلفة.
أما في الخليج العربي، فالصورة مختلفة لكنها لا تقل أهمية. الخليج سوق قريب، يعرف الأردن جيدًا، لكنه في الوقت نفسه سوق سريع القرار، عالي التنافس، ويبحث عن مشاريع جاهزة وشراكات واضحة. المستثمر الخليجي لا يريد سماع العموميات، بل رؤية خرائط مشاريع، وفرص تشغيل، ونماذج عائد واضحة. وهنا يصبح دور الملحق الاقتصادي محوريًا في تسويق المشاريع السياحية والفندقية، وربط المستثمرين الخليجيين بالجهات الأردنية المختصة، والترويج للأردن كوجهة للسياحة العائلية والطبية، وكشريك موثوق في الأمن الغذائي والخدمات اللوجستية.
وفي عمق إفريقيا، حيث تتشكل اليوم واحدة من أكبر ساحات النمو المستقبلية في العالم، يبرز تقصير أكبر وأكثر كلفة. إفريقيا لا تبحث فقط عن سلع، بل عن خبرات وشراكات وبناء قدرات. والأردن يمتلك خبرة معتبرة في مجالات الدواء، والتعليم، والخدمات الطبية، وإدارة السياحة، والصناعات الغذائية. كان يفترض بسفاراتنا وملحقيها الاقتصاديين أن يكونوا أدوات فتح أسواق، وكشافي فرص، وبناة شبكات طويلة الأمد، لا مجرد نقاط تمثيل دبلوماسي تقليدي.
إن الإشكالية الحقيقية لا تكمن في غياب الإمكانات، بل في طبيعة الدور الممارس. ما زال دور الملحق الاقتصادي، في كثير من الأحيان، محصورًا في إعداد تقارير داخلية، أو حضور مناسبات شكلية، أو متابعة ملفات دون أثر اقتصادي ملموس. هذا الدور لم يعد كافيًا، ولا منسجمًا مع طبيعة الاقتصاد العالمي اليوم.
العالم يتوقع من الدبلوماسية الاقتصادية أن تكون مبادرة، مؤثرة، وقابلة للقياس. وهذا يتطلب إعادة تعريف واضحة لدور الملحق الاقتصادي، بحيث يتحول من موظف دبلوماسي تقليدي إلى مدير ترويج وطني، ومسوق فرص، وصانع شراكات. كما يتطلب تزويده بمحتوى إعلامي احترافي متعدد اللغات، وربط أدائه بمؤشرات واضحة تشمل الاستثمارات المستقطبة، وحجم الصادرات، وعدد الشراكات، وأثر الترويج السياحي.
الأردن لا ينقصه المحتوى ولا القصة ولا الفرصة. ما ينقصه هو من يقدّم هذه القصة للعالم بالشكل الصحيح، وفي المكان الصحيح، وباللغة المناسبة. من أوروبا، إلى الخليج، إلى إفريقيا، الفرص موجودة، والأسواق مفتوحة، لكن النجاح مرهون بقدرتنا على الانتقال من دبلوماسية التمثيل إلى دبلوماسية التأثير.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بواقعية وشفافية هو: هل ملحقونا الاقتصاديون جسور عبور حقيقية للأردن نحو العالم، أم أننا ما زلنا نكتفي بحضور لا يوازي حجم ما نملك من إمكانات؟، الإجابة عن هذا السؤال قد تكون نقطة البداية لتحول حقيقي في موقع الأردن الاقتصادي على الخارطة الدولية.