الذكاء الاصطناعي وخريطة العلوم والمعارف القادمة
إبراهيم غرايبة
20-12-2025 06:57 PM
تتبلور على نحو أكثر وضوحا التحولات في الموارد والأسواق وما تبعها أيضا من تحولات في الأعمال والمهن ثم القيم المنظمة لأعمال وحياة الأمم والأفراد، وبطبيعة الحال فإن العلوم والمعارف والتخصصات فيها يعاد تشكيلها، أو تعيد تشكيل وتنظيم نفسها في اتجاه التحولات نفسها التي تجري اليوم وتغير في حياتنا ومؤسساتنا وعلاقاتنا.
يعتبر الفارابي (ت 950م) أول من وضع في الحضارة العربية الإسلامية (وربما الإنسانية) تصورا للعلوم ونشأتها وتعريفها وعلاقتها ببضعها ومنافعها وأهميتها، وما زال كتابه "إحصاء العلوم" مرجعا أساسيا في تاريخ الأفكار والعلوم، وربما يكون هيغل قد اعتمد عليه في تصوراته للمعرفة والعلوم، ثم اعتمد ملفل ديوي (1851 – 1931) على هيغل في بناء خطته لتصنيف العلوم وتنظيم المعرفة في المكتبات ومراكز المعلومات، وهو نظام التصنيف الأكثر استخداما اليوم في المكتبات والجامعات. لكن إذا نظرنا في خطة ديوي لتصنيف العلوم سوف نجد فرقا هائلا في حجم العلوم والمعارف بين عصرين، بل سنجد المعارف والعلوم في طبعة تصنيف ديوي الأخيرة لا تكاد تشبه طبعتها الأولى عام 1876
لقد مرت العلوم والمعارف في نشوئها وتطورها بثلاث مراحل رئيسية تشبه الثورات، صناعة الورق في القرن التاسع الميلادي، والمطبعة في القرن الخامس عشر، وأخيرا الحوسبة والشبكية، وفي كل مرحلة كانت المعرفة تنمو على نحو يشبه "انفجار المعلومات والمعرفة" وفي كل مرحلة تنشأ علوم وتخصصات ومهن وتختفي أخرى، وتتطور فئة ثالثة، وبالطبع فإن معظم ما لدينا اليوم من علوم ومعارف ينتمي إلى ثورة المعرفة الصناعية، لكن الموجة الثالثة تنشئ ثورتها المعرفية، وتغير في خريطة العلوم، وسوف يتبعها بالتأكيد إعادة تنظيم المدارس والجامعات ومراكز الدراسات والتدريب والتأهيل المهني والمعرفي.
ويمكن بالملاحظة والتقدير العام أن نخمن العلوم والمعارف الصاعدة والمتغيرة، فالبرمجة الحاسوبية التي هي أساس الثورة الصناعية الرابعة ليست علما مستقلا بذاتها عن العلوم والتخصصات، لكنها تعيد وتغير الاهتمام بالعلوم والمعارف، لأن البرمجة هي تحويل المعرفة إلى رموز، أو أصفار وآحاد، وبطبيعة الحال فإن أفق البرمجة في تطبيقاتها وتقدمها في الأعمال والمجالات المختلفة مستمد من قدرة الإنسان على فهم نفسه، لأنها ببساطة محاكاة الإنسان، هكذا تصعد العلوم الإنسانية كاللغات وعلم النفس والفلسفة وعلوم الحياة "البيولوجيا" وسوف يعاد صياغة ومعالجة هذه التخصصات لأجل تحويل اللغة وفهم الإنسان لنفسه وكيف يفكر أو يتذكر إلى برامج حاسوبية تطبيقية.
إن "البرمجة الإدراكية" إن صحت الترجمة تعيد تشكيل العلوم الإنسانية لأجل تعليم الحاسوب اللغة والتفكير كما يتعلم الإنسان نفسه، وفي واقع الحال لن تكون علوم اللغة والنفس والفلسفة كما نعرفها اليوم في المدارس والجامعات، وسوف يكون الفرق بين هذه العلوم والعلوم السابقة مثل الفرق بين طب ابن سينا والرازي وبين طب الجامعات والمستشفيات المعاصرة. وسوف يكون الفرق بين المدارس القادمة والمدارس القائمة اليوم مثل الفرق بين هذه وبين الكتاتيب التي كانت سائدة من قبل. صحيح بالطبع أنها علوم ومؤسسات انشأت حضارة وتقدما إنسانيا كبيرا ومدهشا، وساهمت في تحسين الحياة، لكن الحياة لا تتوقف عند حدّ، ويصبح إنجاز اليوم شيئا من الماضي العتيق، يقول لويس ممفورد "تاريخ المدينة عبر العصور" إن مسالخ المدن اليوم أكثر نظافة من غرف العمليات في مستشفيات القرن التاسع عشر.