facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




وزارة التعليم وتنمية الموارد البشرية


أ.د سلطان المعاني
21-12-2025 10:52 AM

يولد اسم الوزارة أحيانًا قبل أن تولد الوزارة نفسها؛ يجيء كمجازٍ سياسيّ يختبر حساسية الدولة تجاه الزمن القادم. وحين طُرح في النقاش العام مسمى «وزارة التعليم وتنمية الموارد البشرية»، ظهر كأنه يقترح تغييرًا في ترتيب الأولويات: وضع الإنسان في مركز المعادلة لا بوصفه متلقيًا للمعلومة، وإنما بوصفه رأس مالٍ وطنيًا يُصاغ بعناية، وتُبنى له مساراتٌ واضحة من الطفولة إلى العمل، ومن المعرفة إلى الإنتاج، ومن الشهادة إلى الكفاية.

يقول الأردنيون منذ زمن، وترددت هذه العبارة في خطاب الدولة عبر عهودها، إن الإنسان أغلى ما نملك. تلك ليست جملة إنشائية تُقال في الاحتفالات؛ إنها معيارٌ تقاس به السياسات، فإذا صدقت تحوّلت إلى موازنات، ومناهج، ومعايير جودة، وفرص تدريب، وعدالة في الوصول إلى التعليم، وربطٍ عضوي بين الجامعة والسوق، وبين المدرسة والمهارة، وبين الحلم والوظيفة. هنا تمامًا تتبدّى وجاهة الجمع بين «التعليم» و«تنمية الموارد البشرية» في وزارة واحدة: تعليمٌ يُرى كجزء من منظومة تنمية وطنية، وتنميةٌ لا تتأسس إلا على تعليمٍ يقرأ الواقع ويستشرف الحاجة.

يفتح هذا التصور بابًا جوهريًا: اعتبار التعليم سلسلة واحدة لا جزرًا متباعدة. فالطالب يخرج من المدرسة إلى الجامعة أو إلى التعليم التقني أو إلى التدريب المهني، ثم يعود بعد سنوات إلى التعلم المستمر لأن الوظائف تتبدّل، والمهارات تُستنزف، والتقنيات تُعيد تعريف ما نعدّه “عملاً”. وعندما تُدار المدرسة بمعزل عن التعليم العالي، تُترك الفجوة تتسع: تُنتج المدرسة توقعات، وتُنتج الجامعة شهادات، ويقف سوق العمل في المنتصف حائرًا، فتكثر الشكاوى: خريجون بلا مهارات كافية، ومؤسسات تبحث عن كفاءات فلا تجدها بالقدر المطلوب.

يتقدّم مفهوم «تنمية الموارد البشرية» ليقترح طريقًا أكثر صرامة وأكثر رحمة في آن: صرامةٌ في تعريف المخرجات المطلوبة من كل مرحلة، ورحمةٌ في توفير مسارات متنوعة تحفظ كرامة الطالب وتراعي اختلاف قدراته وميوله. فالقيمة لا تقاس بعدد سنوات الدراسة وحدها، وإنما بما اكتسبه المتعلم من كفايات: التفكير النقدي، والقدرة على حل المشكلات، واللغة، والمهارات الرقمية، وأخلاقيات العمل، والعمل ضمن فريق، وإدارة الوقت، والتواصل، ثم مهارات تخصصية تتبدّل حسب القطاعات.

ومن هنا يجيء سؤال السياسات: كيف تُدار المنظومة كي لا تبقى شعارات؟ تُدار عبر حوكمة تُوحّد البوصلة: تخطيط تعليمي مرتبط ببيانات سكانية واقتصادية، رصد لمهن المستقبل، تحديث للمناهج وفق معايير واضحة، تطوير للمعلم بوصفه حجر الزاوية، منظومة تقويم وطنية تراقب التعلّم لا الحفظ، شراكات حقيقية مع القطاع الخاص، وتوسيع للتعليم التقني والمهني ضمن صورة اجتماعية مشرّفة تحرّر هذا المسار من التنميط القديم. ثم يأتي التمويل الذكي: إنفاقٌ يلاحق أثره لا مظهره، ويقيم المردود من كل دينار يُنفق على تدريب معلم أو تحديث مختبر أو بناء برنامج تدريبي.

تكتسب الفكرة معناها الأوضح حين ننظر إلى تجارب أردنية تحاول ترجمة الرؤية من الورق إلى الواقع. وتأتي «جامعة الحسين التقنية» مثالًا حيًا على اتجاهٍ جديد: تعليمٌ عالي يضع المهارة والتطبيق في القلب، ويبني جسورًا عملية مع الصناعة والتكنولوجيا، ويعامل الطالب بوصفه مشروع كفاءة لا مشروع لقب أكاديمي. في مثل هذا النموذج نرى كيف يمكن للتعليم أن يربح معركة الزمن: برامج مرنة، تدريب عملي، لغة تكنولوجية يومية، وشراكة مع سوق العمل منذ لحظة الدراسة الأولى، فيخرج الخريج وهو يحمل أدواتٍ عملية تفتح له بابًا في الاقتصاد لا ملفًا في درج الانتظار.

ولا يتوقف الأمر عند الجامعات؛ فجوهر تنمية الموارد البشرية يبدأ من الصف الأول: حين يُدرَّب الطفل على الفضول، ويُشجَّع على السؤال، ويُعلَّم أن الخطأ جزء من التعلم، وأن المعرفة مهارة تُبنى، وأن الجدارة تُكتسب بالتدرّب لا بالتمني. عندها تنمو شخصيةٌ قادرة على التكيّف، لا شخصيةٌ خائفة من التغيير. وحين يشيع هذا النهج، يتحوّل التعليم إلى قوة ناعمة تُعيد تشكيل المجتمع: تخفّ البطالة البنيوية، تُرفع الإنتاجية، يقوى الاقتصاد، ويتقلص النزيف الذي يدفع الشباب إلى الهجرة بحثًا عن معنى لجهدهم.

يبدو مسمى «وزارة التعليم وتنمية الموارد البشرية» في جوهره دعوةً إلى إعادة تعريف الدولة لدورها في الزمن المتسارع: دولةٌ لا تكتفي بإدارة المؤسسات، وتشتغل على صناعة الإنسان القادر. وحين ينجح هذا التحول، يُقرأ الأردن على أنه وطن يعرف أن ثروته الكبرى لا تُستخرج من باطن الأرض، وإنما تُبنى في العقول، وتُصقل في المدارس والجامعات، وتُحترم في سوق العمل، ثم تعود فتثمر أمنًا اجتماعيًا وكرامةً وفرصًا ومعنى.






  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :