facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مسالخ المدن أنظف من غرف العمليات


د. صالح سليم الحموري
21-12-2025 11:26 AM

قد تبدو عبارة «مسالخ المدن اليوم أكثر نظافة من غرف العمليات في مستشفيات القرن التاسع عشر» صادمة، لكنها في جوهرها درس في التقدّم: الاسم لا يصنع الجودة، بل النظام. أوردها إبراهيم غرايبة في مقالٍ منشور على “عمون” منسوبةً إلى لويس ممفورد في «تاريخ المدينة عبر العصور»، لتذكّرنا بأن المكان قد يبدو “مقدسًا” بينما يُدار بمعايير بدائية، وقد يبدو أقل وجاهة لكنه يتفوّق لأنه يملك إجراءات قابلة للتدقيق والتكرار مدعومة بأدوات حديثة وممارسات مبتكرة. هذه الفكرة هي بالضبط ما نحتاجه لفهم الذكاء الاصطناعي اليوم.

نحن نعيش موجة معرفية تعيد ترتيب العلوم والمهن والمؤسسات—بل وتعيد تشكيل الإنسان نفسه—كما فعلت ثورات الورق، ثم المطبعة، ثم الحوسبة والشبكية. غير أن الذكاء الاصطناعي يضيف خطوة أشد خطورة: لم نعد نُحوِّل المعرفة إلى رموز فحسب، بل بدأنا نُحوِّل القرار نفسه إلى رموز. توصية بالتوظيف، ترتيب للأولويات، تلخيص لقضية، فرز لطلبات، تقييم لأداء… قرارات كانت تُحسم داخل العقول واللجان، باتت اليوم تُنتَج أو تُدعَم بخوارزميات تعمل في الخلفية—أحيانًا بصمت، وأحيانًا بثقة تُغري بتسليمها أكثر مما ينبغي.

وهنا تبدأ مفارقة عصرنا: كثير من المؤسسات تمتلك نماذج مبهرة، منصات لامعة، وعروضًا لا تنتهي عن “التحول الذكي”. لكن السؤال الحقيقي ليس: هل النموذج قوي؟ بل: هل النظام الذي يشغّله نظيف؟

“نظافة النظام” هنا لا تعني جمال الواجهة أو سرعة الإجابة. تعني أشياء مملة لكنها مصيرية:

• من أين جاءت البيانات؟ وهل تمثل الواقع فعلًا أم تمثل شريحة فقط؟
• ما معيار النجاح؟ دقة؟ اتساق؟ عدالة؟ تقليل شكاوى؟
• هل توجد حدود استخدام واضحة: متى يكون الذكاء الاصطناعي “مساعدًا” ومتى يُمنع أن يصبح “حَكمًا”؟
• من يراجع؟ من يعتمد؟ من يوقف النظام عند الخطأ؟
• أين سجل القرار؟ ولماذا خرجت هذه التوصية تحديدًا؟

قد نمتلك “غرفة عمليات رقمية” مبهرة الشكل، لكنها أقل نظافة من “مسلخ بيانات” منضبط. نعم: مسلخ بيانات! لأن البيانات -إن لم تُنقَّ وتُوثّق وتُراجع- تصير مصدر تلوث خفي: انحيازات، أخطاء، استثناءات، وتعميمات لا يلاحظها أحد إلا بعد أن تتحول إلى شكاوى أو ظلم أو تآكل ثقة.

في القطاع الحكومي تتضاعف حساسية هذه الأسئلة. الحكومة لا تجرّب على “مستخدمين” فقط، بل على حقوق واستحقاقات وثقة عامة. والخطأ هنا لا يُقاس بخسارة عميل، بل بضرر اجتماعي، أو قرار غير قابل للتفسير، أو فجوة في العدالة. لذلك يصبح تبني الذكاء الاصطناعي امتحانًا للحَوْكمة قبل أن يكون سباقًا للتقنية.

الدرس الذي تقدمه لنا مقولة ممفورد—كما نقلها غرايبة—هو أن التقدّم الحقيقي ليس في “هيبة” المؤسسة ولا في أحدث الأدوات، بل في قدرة النظام على تقليل الخطأ قبل وقوعه، وعلى جعل القرار قابلاً للتفسير والتدقيق بعد وقوعه. وبالمعنى نفسه: قد تتفوق جهة أقل بريقًا لأنها بنت مسارات واضحة للمراجعة، وتوثيقًا صارمًا للبيانات، ومعايير اختبار عادلة، ومراقبة مستمرة لما بعد الإطلاق.

ربما سيأتي زمن يسأل فيه القادمون: كيف انبهرتم بذكاء المخرجات ولم تسألوا عن نظافة الطريق الذي صنعها؟ يومها لن تكون المشكلة أننا لم نملك ذكاءً اصطناعيًا كافيًا، بل أننا استخدمناه داخل أنظمة غير نظيفة. التقدم يبدأ عندما يصبح “نظام التشغيل” أقوى من حماسنا… وعندما تخضع الأدوات للنظام، لا العكس.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :