يُطلَب الأوائل لأنهم يفتحون أبوابًا تُغلق في وجه غيرهم، ويُضايَقون لأن حضورهم يفضح الفارق بين من يكدّ ليبلغ، ومن يكتفي بتفسير العجز على أنه “حقٌّ ضائع”. يُستدعى المتفوّق عند الحاجة إلى حلّ، أو عند ضيق الخيارات، أو حين تتشابك المصالح وتبحث القوى عن عقلٍ راجح يلمّ شتات الموقف. ثمّ، في اللحظة نفسها، يتحوّل التفوّق إلى مرآة قاسية: من ينظر فيها يرى حدود قدرته، فيستثقل المرآة بدل أن يستثقل قصوره. عند هذه العتبة تتكوّن المفارقة القديمة: مطلوبٌ… وغير محبوب.
تتجلّى هذه المفارقة في حال الأردن بوضوح. يُطلب الأردن كلّما احتاج الإقليم إلى لغة توازن، وإلى قدرة على الإصغاء، وإلى إدارة للخسائر بأقلّ قدر ممكن من الانهيار. يُطلب حين تُرتّب الملفات الصعبة، وحين تُفتح مسالك التفاهم، وحين تُقدّم الخبرة في الأمن المجتمعي وإطفاء الحرائق السياسية والاجتماعية. تُطلب الدولة التي تعوّدت أن تعيش تحت ضغط الجغرافيا، وأن تحوّل القسوة إلى نظام، والندرة إلى تدبير، والتهديد إلى يقظة. ثمّ تُرمى بالحجارة اللفظية نفسها التي تُرمى بها كلّ التجارب التي نجحت في البقاء متماسكة وسط محيط شديد السيولة.
تنهض “هجمة الدهماء” هنا بوصفها مشهدًا ثقافيًا قبل أن تكون موقفًا سياسيًا. تتدافع الأصوات في الفضاء العام، وتتسابق الأحكام في منصاتٍ تُكافئ الانفعال وتُعاقب التروّي، فتظهر الدولة التي تختار الحسابات الدقيقة كأنها “متحفظة”، ويظهر المجتمع الذي يحمي نفسه من الانجرار كأنه “متردد”. تتضاعف القسوة حين يختلط مطلب العدالة بمزاج التشفّي، وحين يُطلب من الأردن أن يدفع أثمانًا نيابةً عن الجميع، ثم يُلام لأنه لا يقدّم ما يفوق طاقة الدول العظمى على تقديمه.
تعمل الغيرة السياسية والاجتماعية عملها الصامت. تُحاصر الدول التي تصنع نموذجًا متماسكًا لأن النموذج يربك السرديات الجاهزة. يُربك من يخلط بين الوطنية والعداء، وبين الكرامة والفوضى، وبين الشجاعة وحرق الجسور. يُربك أيضًا من يبني شرعية الحياة اليومية: مدرسة تعمل، ومؤسسة تصمد، ومدينة تواصل، ومجتمع يختلف ثم يجلس في النهاية حول الطاولة نفسها. يُزعج هذا الشكل من “العقلانية المعيشة” جمهورًا يريد مواقف سريعة تشبه صيحات المدرجات؛ مواقف تُشبع العاطفة لحظتها وتترك الخراب يتكفّل بالبقية.
تظهر عظمة الأردن في أنه لا يعيش من فائضٍ مريح. يشتغل من ندرة الماء، ومن ضغط الحدود، ومن ارتجاج الإقليم. يبني شرايينه داخل الصخر، ويؤلّف من القيود هامش حركة. يصوغ مفهومًا خاصًا للقدرة: قدرة على الاستمرار، على تثبيت الدولة دون استعراض، على حفظ المجتمع دون تحويله إلى ثكنة. وحين ينجح في ذلك، يصبح النجاح نفسه مادة اتهام: من اعتاد قياس الدول بحجم الضجيج لا يتقبّل دولة تقيس قوتها بمدى انتظام الحياة.
يجرّب كثيرون تحويل الأردن إلى شاشة إسقاط: يعلّقون عليه خيباتهم، ويحمّلونه ما لا يحمله غيره، ويطلبون منه أن يكون “كل شيء” في وقت واحد. يطلبون منه أن يفتح الباب وأن يغلقه، أن يشارك وأن ينعزل، أن يصرخ وأن يصمت، أن يغامر وأن يضمن. ثمّ، حين يختار طريقًا وسطًا يضمن سلامة الداخل، تتقدّم لغة الاتهام من جديد. هنا تتأكد القاعدة: الأوائل يُحاسَبون على دقّتهم، ويُعاقَبون لأنهم لا يقدّمون مادة سهلة للابتزاز العاطفي.
تُفهم هذه الهجمة، في جانب منها، بوصفها خوفًا من المثال. فالأردن حين ينجح في حماية مجتمعه وتماسكه يضع الآخرين أمام سؤال جارح: لماذا تعجزون عن حفظ الحد الأدنى من الاستقرار؟ وحين ينجح في بناء مؤسسات تعمل تحت الضغط يفضح هشاشة مؤسسات كثيرة تُرفع فوقها شعارات كبيرة وتُدار بعشوائية. وحين يحافظ على علاقات دولية تُحسن المناورة ضمن الممكن يجرح نزعات من يفضّل الخطاب العالي على النتائج الواقعية.
يحتاج الأردن، أمام هذا كله، إلى تحويل الضغط إلى سردية وعي، لا إلى ردود فعل انفعالية. يحتاج إلى لغة تُظهر ما يفعله دون مبالغة، وتشرح حدوده دون اعتذار، وتربط صبره الوطني بمفهوم السيادة في زمن التدافع. يحتاج إلى تجديد ثقته بذاته وبمعاييره، وإلى الاستثمار في الثقافة والتعليم والإعلام بوصفها أدوات دفاع حضاري، تحمي الصورة من التشويه وتحمي الداخل من التفكك.
ويظلّ الدرس الأعمق أن الأوائل لا يعيشون على التصفيق. يعيشون على القدرة: قدرة على التحمّل، على ترتيب الأولويات، على دفع الضرر الأكبر، على صناعة المعنى في زمنٍ يستهلك المعاني. هكذا يُقرأ الأردن: وطن يُطلَب حين تضيق الخيارات، ويُستهدف حين ينجح، ويزداد قيمة كلما اشتدّ حوله الضجيج، لأن البقاء الرزين وسط العاصفة فعل ريادة لا يطيقه كثيرون.