"القطاع العام" بين الإنجاز والتحسين والارتقاء بالأداء المؤسسي
فيصل تايه
23-12-2025 04:38 PM
في وقت تتسارع فيه جهود الدولة لتحديث القطاع العام وتحسين جودة الخدمات ، تابعنا ورشة العمل التي عقدتها رئاسة الوزراء مؤخراً للأمناء والمدراء العامين في الوزارات والمؤسسات الحكومية حول إدارة وتقييم الأداء الوظيفي ، وقد اعتقدنا ان هذه الورشة مجرد نشاط روتيني ، لكن من الواضح في حقيقتها انها محك صارم لقدرة مؤسسات الدولة على التغيير وإعادة ترتيب أولوياتها بما يتوافق مع تطلعات المواطنين وطموحاتهم المشروعة ، كما واستمعنا الى ما أكدته وزيرة الدولة لتطوير القطاع العام ، المهندسة بدرية البلبيسي، بأن التقييم الموضوعي للموظفين ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو الركيزة الأساسية لتطوير الأداء الفردي والمؤسسي وضمان قطاع عام حيوي، قادر على تقديم خدمات نوعية بكفاءة واحترافية تتجاوز توقعات المواطنين.
اننا وحين نتابع الواقع ، يظهر أن هناك قيادات وأمناء أثبتوا التزامهم وكفاءتهم، ونجحوا في رفع مستوى الأداء المؤسسي وتحقيق نتائج ملموسة على الأرض ، فهؤلاء يستحقون الثناء بكل جدارة، فهم نموذج القيادة الرشيدة التي تعتمد على الجدية والالتزام وتحويل السياسات إلى إنجازات ملموسة وملهمة ، فوجود مثل هؤلاء القادة يمنح المؤسسات القدرة على مواجهة التحديات بثقة وفاعلية، ويؤكد أن الاستثمار في الكفاءات ضرورة استراتيجية لضمان نجاح القطاع العام واستمراريته في تقديم خدمات متميزة وفعالة على كافة المستويات.
لكن الصورة الكاملة لا تخلو من التحديات الحقيقية ، فهناك قيادات لم ترتق بعد إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقها، وأداؤهم جاء دون المستوى المطلوب، مؤثراً سلباً على جودة الخدمات ومعيقاً تحقيق أهداف المؤسسات الاستراتيجية ، فاستمرار هؤلاء في مواقع قيادية دون مساءلة صارمة يشكل تهديدا مباشراً لمصداقية القطاع العام، ويرسل رسائل سلبية مفادها أن الأداء الضعيف مقبول، وأن التقييم الحقيقي مجرد إجراء شكلي بلا أثر ملموس ، وهذا الواقع يتطلب إجراءات عاجلة وحازمة لإعادة ترتيب مواقع القيادة وضمان أن كل منصب يشغله من يمتلك القدرة الحقيقية على دفع المؤسسة إلى الأمام وتحقيق النتائج المنشودة.
المشكلة لا تقتصر على الأداء الفردي، بل تشمل اختلالات نظامية واضحة ، فبعض الوزارات والمؤسسات تعاني من بطء الإجراءات، غياب التنسيق الفعال بين الإدارات، وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية في مواقع حساسة، وهو ما يؤثر مباشرة على حياة المواطنين اليومية ويزيد شعورهم بالإحباط تجاه الأداء الحكومي ، فالمواطن اليوم صار يقيس الأداء بوضوح، ورضاه أصبح المؤشر الأكثر صدقًا وموضوعية لنجاح أي إدارة أو فشلها.
خارطة طريق تحديث القطاع العام تضمنت إصلاحات جوهرية لربط الأداء الفردي بالأداء المؤسسي، وتعزيز المحاسبة والشفافية، ورفع مستوى الكفاءات ، فهذه الإصلاحات باتت ضرورة ملحة لضمان أن كل مسؤول قيادي قادر على تحمل المسؤولية كاملة وتحقيق أهداف المؤسسة دون أي تهاون أو تساهل ، اذ يجب أن يتحول التقييم من إجراء شكلي إلى أداة صارمة وحقيقية للتمييز بين المتميزين ومن يحتاجون لإعادة النظر في مواقعهم القيادية، مع وضع آليات واضحة وصارمة للمحاسبة ومعاقبة المقصرين بلا أي تردد.
التحدي الأكبر يكمن في التنفيذ الفعلي ، فالقطاع العام لا يحتمل التأجيل أو التسويف ، وكل من يثبت تقصيره يجب أن يحاسب فوراً، ولا يجوز لأي أداء ضعيف أن يتستر خلف البيروقراطية أو الإجراءات الشكلية، أو الاختباء بجلد نمر ، فالإصلاح الحقيقي يتطلب جرأة غير مسبوقة في القرار ، وشفافية مطلقة في المحاسبة، وحزم صارم في التنفيذ، ويجب أن تواجه القيادات المتقاعسة مراجعة دقيقة وإعادة تقييم مواقعها فوراً لضمان أن كل منصب قيادي يشغله من يستحقه بحق.
على الجانب الإيجابي، أظهرت بعض الوزارات والمؤسسات قدرة ملحوظة على التحول واستجابة سريعة للتقييم الموضوعي، مع نتائج ملموسة في تحسين الخدمات وتسهيل الإجراءات ، فهذه التجارب تشكل نماذج حقيقية يُحتذى بها ويجب تعميمها على باقي المؤسسات لضمان الانتقال من الأداء المتوسط إلى الأداء المتميز على مستوى جميع القطاعات.
اليوم، المواطن يراقب كل خطوة ، وصار يقيس الإنجازات والقصور بوضوح، ولم يعد الرضا عن الخدمات مجرد شعور، بل مؤشر صريح وموضوعي لنجاح أو فشل المؤسسات ، لذلك، على القطاع العام أن يتحول من خطاب شعارات إلى أفعال ملموسة ونتائج محسوسة على الأرض، تثبت أن كل موظف ومسؤول يتحمل كامل المسؤولية عن دوره ، فالقطاع العام بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى قيادة جريئة وواضحة الرؤية، مستعدة لاتخاذ القرارات الصعبة وتحويل كل تحدٍ إلى فرصة لتعزيز التميز والكفاءة وضمان تقديم خدمات نوعية ومؤثرة ، فالإصلاح واجب وطني، والقطاع العام يحتاج إلى جرأة القرار، حزم التنفيذ، وشفافية صارمة ليصبح نموذجًا للكفاءة والتميز الذي يطمح إليه المجتمع بكامل أركانه.
وفي الختام لا بد ان نستحضر كلمات صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين: "الإصلاح مسؤولية الجميع، والقطاع العام القوي هو عماد الدولة الحديثة" ، فلتكن هذه الكلمات شعلة ومرشداً لكل مسؤول، ليحول الرؤية إلى واقع ملموس، والكلمات إلى أفعال محسوسة في حياة المواطنين اليومية، ويصبح القطاع العام نموذجاً حياً للشفافية والكفاءة، والقوة المؤسسية، والقدرة على مواجهة تحديات المستقبل بثقة وفاعلية.