نهاية الإنهاء الوجوبي .. قرار وجوبي حكيم .. ولكن ؟
فيصل تايه
24-12-2025 11:17 AM
قرار إيقاف إنهاء خدمات الموظفين بعد ثلاثين عاماً من الخدمة بات عنواناً لتحول عميق في طريقة تفكير الدولة بإدارة مواردها البشرية ، فالقرار، كما عرض في حيثياته، جاء ليعكس توجهاً واضحاً نحو تعزيز المرونة الإدارية، والانتقال من الإدارة الجامدة إلى إدارة أكثر عقلانية، تقوم على الموازنة بين الحاجة الفعلية والكفاءة، لا على النصوص الصماء وحدها.
إيقاف العمل بالقرارات السابقة التي كانت تلزم بإنهاء خدمات الموظفين ممن بلغت خدمتهم ثلاثين عاماً أو تجاوزت اشتراكاتهم ٣٦٠ اشتراكاً في الضمان الاجتماعي، أعاد الاعتبار لفكرة غابت طويلاً عن الإدارة العامة ، وهي أن الموظف ليس رقماً زمنياً ينتهي بانتهاء مدة، بل خبرة متراكمة تدار وتستثمر وفق حاجة المؤسسة ، فالغاية من القرار ليست الإبقاء المطلق ولا الإنهاء المطلق، بل تمكين المؤسسات من اتخاذ القرار المناسب في التوقيت المناسب، وفق مبررات مهنية واضحة، وبما ينسجم مع متطلبات العمل الفعلية.
لسنوات ، كان التقاعد الوجوبي بعد ثلاثين عاماً يطبق بصرف النظر عن طبيعة الوظيفة أو حساسية الموقع أو مستوى الأداء، فخرجت خبرات نوعية من الخدمة العامة في وقت كانت فيه قادرة على العطاء، وأحياناً في وقت كانت المؤسسات بأمس الحاجة إليها ، هذا النهج لم يكن قاسياً على الموظف فقط، بل مكلفاً إدارياً ومهنياً ، لأنه أفرغ بعض الدوائر من ذاكرتها المؤسسية، وقطع سلسلة نقل الخبرة، وفرض على الدولة كلفة إعادة البناء من جديد.
اليوم، ومع إعادة الصلاحية إلى المرجع المختص، تعود الإدارة إلى موقعها الطبيعي ، تقييم الحاجة، وزن الكفاءة، وموازنة المصلحة العامة ، فالمرونة الإدارية هنا لا تعني الفوضى أو الاستثناء غير المنضبط، بل تعني التحرر من القوالب الجاهزة، والتعامل مع الموارد البشرية بوصفها عنصراً حياً ومتغيراً ، لا ملفاً يغلق عند رقم معين ، فالموظف الذي بلغ ثلاثين عاماً في الخدمة قد يكون في أوج نضجه المهني، حيث تتكامل الخبرة مع الحكمة، ويصبح القرار أقل كلفة وأكثر دقة.
الأهمية الحقيقية لهذا القرار أنه يضرب في عمق فلسفة الإدارة العامة ، فالدولة التي تسعى لضبط النفقات لا تفعل ذلك بالضرورة عبر الإقصاء، بل أحياناً عبر الإبقاء على الخبرة التي تمنع الخطأ، وتختصر الوقت، وتقلل الهدر ، والإبقاء على موظف كفؤ في موقعه قد يكون أقل كلفة وأكثر فاعلية من خسارته والدخول في دورة تدريب وتجربة طويلة وغير مضمونة النتائج.
كما أن للقرار بعداً نفسياً ومؤسسياً لا يقل أهمية ، فهو يعيد الثقة للموظف، ويكسر شعور القلق الذي كان يرافق شريحة واسعة من العاملين في القطاع العام، ويؤكد أن الدولة لا تنهي المسار الوظيفي لمجرد اكتمال رقم، بل تقيم الأداء وتقدر الحاجة ، هذه الرسالة بحد ذاتها تعزز الانتماء، وترفع منسوب الالتزام، وتنعكس إيجاباً على جودة العمل العام.
ومع ذلك، تبقى المسؤولية الأكبر في مرحلة التطبيق ، فالمرونة الإدارية التي يقوم عليها القرار يجب أن تمارس بعدالة وشفافية، وأن تحمى من الاجتهادات الشخصية أو الاستخدام غير المنضبط ، فنجاح القرار لا يقاس بإبقائه على الجميع، بل بقدرته على الإبقاء على من تحتاجه الدولة فعلا، وإنهاء خدمة من استنفد دوره دون ظلم أو تمييز ، وهنا يبرز التحدي الأبرز ، في كيفية ممارسة الصلاحية، إذ يخشى أن تتحول من أداة تنظيم إلى قرار خاضع للمزاجية، يحال فيه من لا يراد، ويُبقى على من يراد ، لا وفق معايير مهنية واضحة، بل بحسب التقدير الشخصي، لكن القرار سيكون قابلاً للطعن أمام المحكمة الإدارية في حالة وجود تعسف في اتخاذه ، خاصة بإحالة أي موظف للتقاعد المبكر ، وهي مفارقة إن لم تعالج بحكمة ستفرغ القرار من جوهره.
اعود الى القول ان ما صدر اليوم يمثل إعلاناً واضحاً عن مرحلة جديدة في إدارة القطاع العام ، مرحلة تدار فيها الخبرة بعقل الدولة لا بعجلة النص، ويقاس فيها العطاء بالقيمة لا بالسنوات ، لذلك انا اقول إنه قرار كبير، ليس لأنه أوقف إجراءً سابقاً فحسب، بل لأنه أعاد الإنسان إلى قلب المعادلة الإدارية، وفتح الباب أمام إدارة أكثر توازنا، أكثر عدلاً ، وأكثر قدرة على مواجهة تحديات المستقبل.
والله ولي التوفيق