السلط .. مدينة الحارة والأكراد، وذاكرة العيش المشترك
م. عبدالفتاح الدرادكة
24-12-2025 06:29 PM
“لا حارة ولا كراد” عبارة شدّت الأسماع في أغنية الفنان الأردني عمر العبداللات، لكنها في الوقت نفسه فتحت باب التساؤل: ما المقصود بالحارة؟ وماذا تعني الأكراد؟ خاصة لمن لم يكون سلطيا او لم يسكن السلط؟… هذه العبارات ليست مجرد كلمات، بل هي مفتاح لفهم جزء من ذاكرة السلط العريقة، المدينة التي لا تختصرها جغرافيا بقدر ما تحتضنها حكايات الناس وتاريخ العشائر وتنوعها الفريد
محلة الحارة كما يعرفها أهل السلط، منطقة تمتد من الساحة وسط المدينة إلى جبل السلالم والذين يفصل بينهما شارع الميدان وتغطي الحارة مناطق الخضر والجدعة السفلى والسفح الشرقي والشمالي لجبل القلعة.
أما الأكراد فهي محلة أخرى تبدأ من الساحة وتمتد عبر وادٍ عُرف بهذا الاسم نسبة إلى فرقة كردية استوطنت المكان إبّان الحروب الصليبية وتضم السرايا والوكالة والخندق والسفح الجنوبي لجبل القلعة والجدعة العليا والمنشية والعيزرية والصافح
ومن أبرز العائلات السلطية في وادي الأكراد: الحيارات، الحياصات، الخريسات، العربيات، الوشاح، النسور، الدبابسة، الرمامنة، الجزازية، الخليفات الهزايمة، الغنيمات، الرحاحلة، الدرادكة، القضاة، الريالات، والعناسوة إلى جانب عائلات مسيحية كآل الحداد (الحبله)، قموه.
أما الحارة فقد احتضنت العواملة، الزعبية، القطيشات، الفواعير، الخرابشة، الحدايدة، العمايرة، العطيات، العبداللات، النجداوي، الكلوب، ابوحمور، الحليق، العوايشة، مسمار، مهيار، إضافة إلى عائلات مسيحية عريقة مثل الدبابنة، القواقشة، الفواخرية، حداد، تادرس، النبر، النشيوات، الجوابرة، والمعشر، والسمردلي، ونفاع، وغيرهم وعائلات من اصول فلسطينية مثل النوابلسة، الكيلاني، والعمد، والبنا، والالفي، وطبلت، وخرفان، وغيرهم، وعائلات من اصول شامية مثل الذهبي، وابو الراغب، والسقا، والرزاز، وغيرهم..
ورغم ما قد يُظن من التنافس بين منطقتين متجاورتين، لم يذكر التاريخ نزاعًا بين الحارة والأكراد. بل على العكس، ظلّ التعايش عنوانًا دائمًا، وإن شهدت السلط في بعض المراحل اصطفافات انتخابية، أبرزها في خمسينيات القرن الماضي عندما تنافس رياض المفلح الفاعوري من الحارة وعبد الحليم النمر الحمود العربيات من الاكراد.
ما يميز السلط حقًا ليس فقط جغرافية المكان، بل روح العيش المشترك التي تجسدت في علاقة العشائر المسلمة والمسيحية. لم تكن هذه العلاقة شكلية، بل كانت واقعًا معاشًا في الأسواق، والبيوت، والأعراس، والأتراح. السلط لم تفرّق بين ابن كنيسة وابن مسجد، بل جعلت من تنوعها قوة عزّزت وحدتها الداخلية.
ولعلّ أبرز ما يرسّخ هذا المعنى هو أن السلط لم تكن فقط بيتًا لأبنائها، بل حاضنة للغريب. فقد اعتاد كثير من أبناء العشائر الأردنية من خارجها، حين يتزوجون من بناتها، أن يسكنوا في السلط. ذلك لأنها مدينة بموقع متوسط في قلب الأردن، قريبة من فلسطين، منفتحة على ثقافات متعددة، ويمتاز أهلها بوعي ثقافي واجتماعي متقدم.
ومن أبهى الأمثلة على وعي أهل السلط وانفتاحهم ما حدث في عشرينيات القرن الماضي، حينما تداعى أبناء المدينة لبناء مدرسة السلط الثانوية. لم تكن مجرد مدرسة، بل كانت مشروعًا وطنيًا بامتياز، ساهم فيه الجميع حتى غدت أقدم مدرسة ثانوية في الدولة الأردنية، وأُطلق عليها اسم “أم المدارس”. هذه المبادرة لم تعكس فقط تقدير السلط للتعليم، بل جسدت روح المشاركة والريادة التي ميّزت أبناءها.
لطالما احتلت السلط مكانة خاصة في قلوب اهلها، فهي مدينة تربت أجيالها في أحضانها، وتفتحت عيونهم على جمال طبيعتها وورثوا كرم أهلها. يكفي أن تقف عند وادي السلط أو عين حزير أو وادي شعيب لترى لوحة طبيعية لا يضاهيها جمال. هناك حيث تظلل أشجار الليمون والتين والتوت البيوت والمزارع، وتنساب مياه العيون جداول صافية تروي البساتين الصغيرة المليئة بالبقدونس والخس والجرجير والكزبرة والنعنع والخبيزة.
أما إذا اتجهت نحو مغاريب السلط وتلال زي، فإنك تستنشق هواءً عليلًا، يبعث في النفس راحة وسكينة. المكان هنا لا يُرى بالعين فحسب، بل يُعاش بالقلب ويترسخ في الذاكرة عشقًا أبديًا، يجعل من العودة إلى السلط عودة إلى الجذور، إلى الذات، إلى الهوية.
زيارة السلط لا تكتمل من دون التجول في قلبها القديم، بين البيوت الحجرية الصفراء التي تصطف على جنبات أزقتها الضيقة في الجدعة والخضر والميدان ووادي الأكراد والسلالم. لكل بيت هنا قصة، ولكل درجٍ ذكرى، ولكل ساحة حكاية من الماضي. في السرايا، وفي بقايا الوكالة، وفي الحارات القديمة، تجد السلط تتحدث بلسان الأجداد عن صمودهم، وعن روحهم الجماعية التي جعلت من المدينة قلعة للتاريخ والهوية.
لم تكن السلط مجرد مدينة عابرة في الجغرافيا الأردنية، بل كانت وما زالت مصنعًا للرجال والنساء الذين قدّموا للوطن الكثير. فهي مدينة الكرامة والعلم والوحدة، مدينة تعلّم الأجيال معنى الانتماء للأرض والوفاء للتاريخ. السلط ليست فقط “لا حارة ولا كراد”، بل هي الكل الذي يجمع هذه الأجزاء، لتشكل لوحة فسيفسائية نابضة بالحب والانتماء
الحديث عن السلط ليس وصفًا لجغرافيا ولا عدًّا للعشائر، بل هو استحضار لتجربة مدينة صاغت نموذجًا للعيش المشترك والوحدة الوطنية. السلط التي جمعت بين الحارة والأكراد، بين المسلم والمسيحي، بين ابنها والمقيم فيها، تظل شاهدًا على أن الهوية الأردنية ليست مجرّد شعارات، بل واقع تجذّر في المدن والقرى منذ عشرات السنين.
والله من وراء القصد.