من يتجنّب الأخبار في العالم العربي .. ولماذا؟
حسن عبدالحميد الرواشدة
28-12-2025 02:01 PM
ليس "تجنّب الأخبار" ظاهرة غربية خالصة، ولا ترفًا سلوكيًا مرتبطًا بجيل المنصات في أوروبا والولايات المتحدة. في العالم العربي، تأخذ هذه الظاهرة شكلًا أكثر تعقيدًا وخطورة، لأنها لا ترتبط فقط بالإرهاق أو تغير العادات الرقمية، بل تتقاطع مباشرة مع السياسة، الثقة، وحدود السرد المسموح.
في السياق العربي، لا يمكن التعامل مع سؤال "لماذا يبتعد الناس عن الأخبار؟" بوصفه سؤالًا تقنيًا أو مهنيًا فقط. إنه سؤال سياسي بامتياز.
صحيح أن دراسات معهد رويترز ومركز بيو للأبحاث الصادرة مؤخرا تشير إلى أن نحو 40% من الناس عالميًا يتجنبون الأخبار، وأن المنصات الرقمية باتت المصدر الأساسي للأجيال الشابة، لكن إسقاط هذه الأرقام على العالم العربي دون تفكيك السياق سيكون تضليلًا.
فالجمهور العربي لم ينسحب من المجال العام، بل انسحب من الصحافة بوصفها وسيطًا موثوقًا ومعبّرًا عنه.
في المنطقة العربية، لا يعاني الجمهور فقط من "إرهاق الأخبار"، بل من فقدان المعنى. أخبار متشابهة، لغتها واحدة، زواياها متوقعة، وسقوفها معروفة سلفًا. السياسة حاضرة بكثافة، لكن بلا نقاش حقيقي. الأزمات تُعرض، لكن دون مساءلة. والحدث يُغطّى، لكن دون أن يُعاد إلى الناس بوصفه شأنهم.
هنا تبدأ المفارقة، ففي أكثر مناطق العالم اضطرابًا سياسيًا، وحروبًا، وأزمات اقتصادية، يتراجع استهلاك الأخبار التقليدية. ليس لأن الواقع أقل سخونة، بل لأن الصحافة فقدت قدرتها على أن تكون مساحة تفسير، لا مجرد ناقل بيانات.
التحول إلى المنصات الرقمية في العالم العربي لا يعني بالضرورة بحثًا عن الترفيه فقط، بل عن رواية بديلة ولغة أقل رسمية ونقاش يشبه الناس وشعور بالمشاركة لا بالتلقي.
وهذا يفسّر لماذا أصبحت المنصات، من تيك توك إلى يوتيوب إلى مجموعات واتساب، ساحات رئيسية لتداول الأخبار، حتى في القضايا السياسية الكبرى. الناس لا تبحث فقط عن "ما حدث"، بل عن كيف يُفهم ما حدث، ومن يجرؤ على ربطه بسياقه الحقيقي.
لكن الخطر هنا مضاعف. ففي غياب الصحافة المهنية عن هذه المساحات، لا يُترك الفراغ بلا بديل، بل يُملأ بخليط من معلومات مجتزأة وروايات مؤدلجة وتبسيط مخل أو تضليل متعمد
وفي عالم عربي يعاني أصلًا من هشاشة الثقة بالمؤسسات، فإن تراجع الصحافة لا يؤدي إلى حياد معرفي، بل إلى تسييس غير منضبط للوعي العام.
المشكلة أن جزءًا كبيرا من الإعلام العربي لا يزال يتعامل مع الجمهور بوصفه "متلقيًا يجب ضبطه"، لا شريكًا يجب فهمه. لذلك، حين يتجنب الناس الأخبار، يُتهمون بالسطحية، أو بالهروب، أو بعدم النضج السياسي. في حين أن السؤال الأصدق هو هل قدّمنا لهم صحافة تستحق وقتهم وثقتهم؟
في الغرب، تُناقش أزمة تجنّب الأخبار بوصفها أزمة نماذج عمل وثقة. أما في العالم العربي، فهي أزمة دور ووظيفة. هل الصحافة مجرد أداة نقل؟ أم مساحة عامة للنقاش؟ هل هي جزء من المجتمع أم ملحقة بالسلطة أو المال؟
حين تغيب الإجابة الواضحة، ينسحب الجمهور بهدوء. لا يعلن القطيعة، ولا يثور، بل يبحث عن طرق غير مباشرة للوصول إلى المعلومة، من صديق، من "مؤثر"، من نقاش، من فيديو قصير. وهي بالضبط ما يسميه الباحثون "الأخبار غير المباشرة".
الخطير أن هذا الانسحاب يحدث في لحظة تاريخية تحتاج فيها المجتمعات العربية إلى صحافة قوية أكثر من أي وقت مضى.
تجنب الأخبار في العالم العربي ليس حكمًا على الجمهور، بل مرآة لأزمة الصحافة نفسها. أزمة لغة، وأفق، وجرأة، وقدرة على التجديد. والسؤال الذي يجب أن يُطرح داخل غرف الأخبار العربية ليس كيف نعيد الناس إلى النشرات؟ بل كيف نعيد الصحافة إلى الناس؟
لأن الصحافة التي لا تُقرأ، ولا تُناقَش، ولا تُؤثّر، قد تكون موجودة مهنيًا… لكنها غائبة سياسيًا.
وفي عالمنا العربي، الغياب السياسي للصحافة ليس ترفًا يمكن تحمّله.