قراءة نقدية لنتائج الأردن على مؤشر "إتقان اللغة الإنجليزية" ٢٠٢٥
فيصل تايه
29-12-2025 10:53 AM
تشهد التقارير الدولية المتعلقة بمؤشرات التعليم انتشاراً واسعاً وتأثيراً مباشراً في تشكيل الرأي العام وصناعة القرار ، لا سيما حين تتناول قضايا تمس جوهر رأس المال البشري ومستقبل الأجيال ، ففي كل مرة يصدر فيها مؤشر دولي يضع الأردن في مرتبة متأخرة، فتتجه الأنظار سريعاً نحو النظام التعليمي، وتبدأ موجة من القلق والتساؤلات وربما جلد الذات، قبل التوقف الجاد عند سؤال جوهري : هل تعكس هذه المؤشرات فعلاً واقعنا التعليمي كما هو، أم أنها تقيس جزءاً منه وتعمم نتائجه؟
في هذا السياق ، أثار صدور تقرير مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية لعام ٢٠٢٥ مؤخراً ، والصادر عن مؤسسة التعليم أولاً EF أو ال - First Education EF السويدية ، وما تضمنه من ترتيب متأخر للأردن ، حالة من الجدل المشروع والتساؤلات العميقة حول مدى دقة هذه النتائج ، ومنهجيتها، وقدرتها الفعلية على عكس الواقع التعليمي في المملكة ، فبين أرقام تتداول سريعاً في الإعلام، وقراءات انطباعية قد تبنى عليها أحكام قاسية، تبرز الحاجة الماسة إلى قراءة نقدية علمية رصينة، تفكك المؤشر، وتفند ادعاءاته، وتضع نتائجه في سياقها الصحيح، بعيداً عن التهويل أو الإنكار، وقريباً من منطق التحليل المسؤول الذي يخدم الإصلاح لا جلد الذات.
السؤال الذي يفرض نفسه بقوة بعد صدور هذا المؤشر ، والذي وضع الأردن في المرتبة (١٠٥) عالميًا من أصل (١٢٣) دولة، ضمن فئة "الكفاءة المنخفضة جداً" بمعدل (٤٢٥) نقطة ، ورغم خطورة هذا الترتيب في ظاهره، إلا أن التعامل معه بوصفه حقيقة مطلقة دون تحليل نقدي منهجي قد يقود إلى استنتاجات متسرعة وسياسات غير دقيقة.
لقد اشارت نتائج المؤشر إلى واقع يستدعي التوقف، لكن القراءة المتأنية للمنهجية، وطبيعة العينة، وأدوات القياس، تكشف أن هذه النتائج تحتاج إلى تفكيك علمي قبل اعتمادها مرجعاً لتقييم الأداء التعليمي في الأردن ، فالمؤشر لا يشمل طلاب المدارس، بل يقتصر على الفئة العمرية من (١٨) سنة فأكثر، وهو أمر لم يتم توضيحه بما يكفي في الخطاب العام المصاحب لنتائج التقرير.
هذا القيد المنهجي يعني أن المؤشر لا يقيس أداء التعليم المدرسي المبكر، ولا يعكس بالضرورة جودة المناهج أو الممارسات الصفية الحالية، بل يقيس مهارات لغوية لفئات عمرية تشكلت خبراتها التعليمية والعملية عبر سنوات طويلة وفي سياقات متعددة، مما يجعل تعميم النتائج على النظام التعليمي المدرسي أمراً غير دقيق.
كما وتظهر فجوات واضحة في المنهجية وأدوات القياس ، اذ يعتمد المؤشر على اختبار إلكتروني مفتوح وطوعي، يشارك فيه الأفراد بمبادرة ذاتية، دون وجود عينة وطنية ممثلة تضمن التوازن بين الفئات الاجتماعية والتعليمية والمناطق الجغرافية ، وهذا النوع من العينات يكون عادة منحازاً لفئات محددة، كالراغبين بالهجرة أو العمل الخارجي، أو من لديهم وعي مسبق بضعف مستواهم اللغوي ، إضافة إلى ذلك، لم يوضح التقرير الجهة المنفذة لجمع البيانات، ولا توقيت التطبيق، ولا معايير التقييم التفصيلية، وهو ما يضعف من موثوقية النتائج ويستدعي الحذر في البناء عليها سياسياً أو تربوياً .
لقد شهد مؤشر ٢٠٢٥ تعديلاً جوهرياً في أداة القياس بإضافة مهارتي الكتابة والمحادثة إلى جانب القراءة والاستماع ، ورغم أهمية هذا التوسع، إلا أن مقارنة نتائج هذه النسخة بنتائج سنوات سابقة باستخدام أدوات مختلفة يعد إشكالاً علمياً ، إذ إن أي انخفاض في الترتيب قد يكون ناتجاً عن توسّع نطاق القياس لا عن تراجع حقيقي في مستوى الإتقان.
كما وان المؤشر يختزل واقعاً تعليمياً واجتماعياً شديد التنوع في رقم وطني واحد، متجاهلاً الفروقات بين المحافظات، وبين البيئات التعليمية، وبين الجنسين، والخلفيات الاجتماعية ، فرغم تسجيل العاصمة عمان متوسطاً أعلى من محافظات أخرى، تم دمج هذه الفروقات في ترتيب عام، ما أفقد المؤشر قيمته التشخيصية وحوله إلى أداة تصنيف أكثر من كونه أداة فهم وتحليل.
ووفق ما أظهرته النتائج فأن مهارة الكتابة سجلت أدنى مستوى أداء بنسبة (٤٢.٥%)، دون تقديم أي تفسير لطبيعة المهام الكتابية أو معايير تصحيحها ، حيث ان الكتابة مهارة مركبة تتأثر بالسياق الثقافي والتربوي ونوع المهمة، ولا يمكن اختزالها في اختبار إلكتروني عام ثم تعميم نتائجها على نظام تعليمي كامل.
يجب ان نعي تماماً إن التداول الإعلامي المكثف لهذه النتائج دون سياق نقدي علمي قد يخلق حالة من الإحباط العام، ويؤثر سلباً في ثقة المجتمع بمؤسساته التعليمية، بل وقد يستخدم لاحقاً كأساس لصياغة سياسات غير دقيقة ، وهذا لا يعني إنكار وجود تحديات حقيقية في إتقان اللغة الإنجليزية، بل التحذير من أن النقد غير المؤسس علمياً قد يتحول من أداة إصلاح إلى أداة تشويه.
اما وحين نتحدث عن ضعف إتقان اللغة الإنجليزية لدى بعض فئات البالغين في الأردن ، فمن منظور تربوي، ذلك يعود إلى أسباب تراكمية، أبرزها ضعف الممارسة اليومية للغة، والاعتماد على أساليب تدريس تقليدية في مراحل مبكرة، اضافة الى نقص الموارد التعليمية والتقنيات الحديثة، ناهيك عن الاكتظاظ في المدارس الحكومية، وتفاوت كفايات المعلمين في توظيف طرائق التدريس الحديثة ، وهذه العوامل تتراكم عبر السنوات وتنعكس لاحقاً في مؤشرات من هذا النوع.
إن قضية إتقان اللغة الإنجليزية في الأردن ليست قضية ترتيب في مؤشر دولي بقدر ما هي قضية سياسات تعليمية طويلة المدى ، والرهان الحقيقي لا يكون على تحسين موقعنا في جداول التصنيف، بل على بناء منظومة تعليمية قادرة على إنتاج كفايات لغوية حقيقية تخدم التنمية الوطنية والاقتصاد المعرفي ، فالتعامل النقدي الواعي مع المؤشرات الدولية، بدل القبول بها أو رفضها مطلقاً، هو الطريق الأكثر مسؤولية لصنع قرار تربوي رشيد، يوازن بين الاعتراف بالتحديات وحماية سمعة التعليم الوطني، ويضع الإصلاح في مساره الصحيح بعيداً عن التهويل أو الإنكار.
وأخيرا ، فإن التعامل مع مؤشرات دولية من هذا النوع يتطلب قدراً عالياً من المسؤولية الوطنية، فلا يجوز تجاهلها أو القفز فوقها، كما لا يجوز في المقابل التسليم المطلق بنتائجها دون تمحيص علمي ومنهجي ، فالدولة التي تطمح إلى تطوير منظومتها التعليمية وبناء اقتصاد قائم على المعرفة، مطالبة بأن تميز بوضوح بين المؤشر بوصفه أداة إنذار أولي، وبين البيانات الوطنية الدقيقة التي يجب أن تبنى عليها السياسات العامة.
وعليه، فإن المطلوب اليوم ليس الدفاع عن ترتيب أو نفي تحد ، بل إعادة توجيه النقاش من منطق التصنيف إلى منطق التخطيط، ومن ردود الفعل الآنية إلى بناء استراتيجية وطنية شاملة لتعليم اللغة الإنجليزية، تستند إلى تقييم علمي محلي، وتكامل مؤسسي، ومساءلة تربوية واضحة ، فإصلاح تعليم اللغة الإنجليزية يجب ان يكون قراراً سيادياً يرتبط بمكانة الأردن الإقليمية، وقدرته على المنافسة، وتمكين شبابه من أدوات المستقبل بثقة واقتدار.
والله ولي التوفيق