زهير النوباني فنانٌ يتقن المحبة
أ.د سلطان المعاني
29-12-2025 12:38 PM
يجيء زهير النوباني إلى الذاكرة كما يجيء المطر إلى أرضٍ تعرفه؛ بلا ضجيجٍ مفتعل، وبأثرٍ يترك العلامة حيث ينبغي أن تُترك. تراه في المشهد الأردني فتشعر أن الفن عنده بدأ من رغبةٍ في أن يمنح الناس شيئًا يطمئنون إليه: ضحكةً لا تؤذي، دمعةً لا تتاجر بالحزن، ونبرةً تعرف أين تقف حتى لا تُثقل على القلب.
يمتلك الرجل تلك الخصلة النادرة التي تجعل الممثل قريبًا من جمهورٍ لا يعرفه شخصيًا، لكنه يراه جزءًا من يومه. كأن الشاشة حين حملته حملت معها معنى الألفة؛ فيتحوّل الوجه إلى جارٍ قديم، وتتحول الجملة إلى مثلٍ يتداوله البيت، وتصبح الشخصية الدرامية بابًا يطلّ منه الناس على أنفسهم. ثم لا يكتفي زهير بأن يكون حاضرًا في أعماله؛ يمضي أبعد، فيصنع للحضور معنى أخلاقيًا: حضورًا يشبه الوعد بأن الفن، مهما اشتدّت عليه الأزمنة، يستطيع أن يبقى إنسانيًا.
تتسع علاقاته مع الوسط الثقافي كما تتسع دائرة الضوء حول شمعةٍ ثابتة، لا يدّعي الزعامة داخل المكان، ولا يفتعل خصومةً مع أحد كي يثبت وجوده. يتقن فنّ المعاشرة، ويعرف أن المشهد الثقافي، مهما بدا صاخبًا، يقوم في العمق على تفاصيل دقيقة، كلمة احترامٍ في الوقت الصحيح، وفاءٌ لزميلٍ في لحظة تعب، ونزاهةٌ في النظر إلى الآخرين بوصفهم شركاء في صناعة الذائقة لا منافسين في سوقٍ ضيقة.
وأجمل ما في علاقته بالوسط الفني والثقافي أنه لا يكتفي بأن يكون زميلًا؛ يتصرف كأنه ابن البيت. يشارك الناس أفراحهم، يربط بين الأجيال، ويترك مسافةً رقيقة بين نجوميته وبين إنسانيته، مسافةً تسمح للآخر أن يقترب دون خشية، وأن يحفظ في قلبه احترامه دون أن يضطر إلى التملّق. هكذا يصير الفنان قيمة اجتماعية: لأنه يرفع منسوب الثقة داخل البيئة التي يعمل فيها، ويذكّر الجميع أن الفن يزدهر في مناخ المحبة المتبادلة.
ويمتلك زهير النوباني قدرةً خاصة على التعامل مع وسائط التفاعل المختلفة دون أن يفقد اتزانه. يدخل إلى الفضاء الرقمي بروح الفنان لا بروح “المؤثر”؛ لا يبيع سيرةً ولا يصنع بطولةً من تفاصيله الشخصية، لكنه يرسل إشاراتٍ حين يحتاج المشهد إلى إشارة. يكتب سطرًا قصيرًا فيوقظ أسئلة كبيرة: عن كرامة الفنان، عن شيخوخة الإبداع، عن معنى أن يظل العطاء طويلًا بينما الضمانات قصيرة. وحين تلتقط الناس عباراته، لا يهرب منها ولا يتركها سلاحًا في يد التأويل؛ يعود إليها بروح مسؤولة، كمن يقول: الكلام الذي يُقال للناس يُقاس بأثره فيهم.
لا يقتصر حضوره على أداء الأدوار؛ ثمة شيء أعمق يشبه “التربية الفنية” التي يمارسها دون أن يعلن عنها. يعلّمك، من حيث لا يقصد، أن الصدق هو أرقى أشكال الإتقان، وأن الموهبة التي لا تستند إلى تهذيب داخلي تصبح نزوةً عابرة. في أدائه توازنٌ يُشبه الحكمة: يعرف متى يضغط على لحظة التوتر، ومتى يترك للشخصية أن تتنفس، ومتى ينسحب كي يلمع النص لا كي يلمع هو. وهذا سرّ كبير: أن يُقنعك الفنان بقدرته، ثم يجعلك تنسى قدرته لأنك انشغلت بالحكاية.
تستحق شخصية زهير النوباني العامة التكريم لأنها صنعت مسارًا يقوم على الرسوخ. والرسوخ هنا ليس ثباتًا جامدًا؛ إنه قدرة على البقاء قريبًا من الناس رغم تغيّر الأزمنة، وعلى الاحتفاظ بنبرةٍ محترمة وسط انفعالات السوق، وعلى تذكيرنا بأن الفن ينحاز للإنسان حين لا يملك الإنسان سوى ظله.
تستحقه أيضًا لأن محبته ليست شعارًا يُقال في المناسبات. تتجسد في طريقة حضوره، في عفويته الموزونة، في احترامه للناس حين يختلفون، وفي قدرته على أن يظلّ “مُحبًا” حتى وهو يطالب بحقه. فالمحبة عنده ليست ضعفًا ولا مجاملة؛ المحبة طريقة في النظر إلى العالم: أن ترى الآخر شريكًا في الحياة، لا مادةً للاستغلال ولا هدفًا للتهشيم.
ويجيء الإنصاف هنا ضرورةً أخلاقية قبل أن يكون انحيازًا عاطفيًا. يُنصف لأن الرجل قدّم كثيرًا، وبقي يحمل الفن كأنه مسؤولية تجاه البلاد وتجاه الناس وتجاه الذاكرة. يُنصف لأن المشاهد الأردني والعربي حين ينطق اسم زهير النوباني لا يستحضر “ممثلًا” فقط؛ يستحضر جزءًا من عمره، من مواسمه، من ضحكاته وقلقه، من لحظاتٍ كانت الشاشة فيها نافذةً على معنى أن ترى نفسك في مرآة الفن دون أن تُهان.
لهذا يبدو زهير النوباني فنانًا يتقن المحبة، لأنه جعل الفن جسرًا إلى الناس. ومن يُحسن بناء الجسور يستحق أن نُسميه، في زمن كثرت فيه الجدران، قيمةً عامة تُقرأ بوصفها درسًا حيًا في كيف يصبح الفن أخلاقًا، وكيف تصبح الأخلاق فنًا.