facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




أحمد سلامة يكتب لـ عمون: سلام عليك يا زياد


25-05-2013 07:47 PM

عمون - كتب: أحمد سلامة -

إسّاقط...

شتاء بغداد كأنه بعض وهمٍ لتنافر قطراته، فقط كانت برودة مأوى (الرشيد) تخالط غيماتها العاليات فتحدث وهم مطر!

في ساحة الاحتفالات الكبرى هناك،

في حين أثقل المطر الغزير كعادته أرصفة عمّان وبلل مراييل براءة طفلاتنا على طول ماركا-المطار حيث اصفطت بناتنا وأبناؤنا منذ ظهر ذلك اليوم لاستقبال (الشهم الحكيم) سيد الملوك، (وأعزهم قبيلا).. الحسين..العائد بسلة من فرح عقب احتفاله بتدشين مجلس التعاون العربي ذلك المساء.

وقع ذلك في السادس عشر من شباط في شتوة من شتاءات عمان عام 1989، تلك الشتوة التي جمعت (الحسين وصدام ومبارك وعلي عبدالله صالح).

في ذلك الاحتفال العراقي المليوني المنضبط من (لمعة) عيون الحرس الجمهوري التي كانت (تقدح شرراً كالقصر كأنه جمالةٌ صفر) حتى توزيع حبة موز من مخابرات النظام العراقي مكافأة لكل عراقي وعراقية شاركوا في ذلك الاحتفال.

إذ ذاك..

استعار (صدام حسين) رحمه الله كل شيء من الحكم الهاشمي التليد في بغداد، فارتدى في ذلك الاحتفال (الفيصلية)- شعار فيصل الأول.

وكان حنين صدام حسين إلى عصر الملوك الشرعيين قد أخذه إلى كرم مثل كرمهم، وحباً للعرب أتقنه بضراوةٍ مثل حبهم، وسمو همة وعلو شأن أسوة بهم، ووقف في وجه العدا بفروسية استمد صوفيتها من تضحية الشريف الحسين بمُلكه، لم يهن و لم يرمش حين تعلق ذلك باستحقاق لصالح الأمة و صدٍ للطامعين بأحلامها.

شيءٌ واحد فات ذلك الفارس، لم يظفر به وهو بعض صبرٍ و ضبط غرائز و فيض تسامح لأن عنف العراقيين النبلاء فيما يبدو لم يمنحوه فرصة للظفر بتلك السجايا والخصال.

وقف الحسين،،

ذلك المُبَرْقِع لذكائه حد الدهشة، بمهارة كي لا يستفز أي (آخر).. كيف كان بقادرٍ ذاك المليك من أن يبث ونسته فيك وطرد الوحشة عنك، و تنحية مهابته جانباً و ينسيك أنك تجالس أو ترى سبط الرسول صلى الله عليه و سلم بين يديك، كأنه مثلك! تلك الحشمة النبوية التي ورثها مضمخة، مجبولة بالوعد الإلهي: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، كأن كل ذلك لم يخلق إلا له.

أبو عبدالله، يرحمه الله، حييٌ في خلقه كان.. مثل الثلج الذي يوشك على الذوبان رقة ونعومة ملمس.

وحده كان يتابع القوافي والمغازي والسيّر، وحده من كان يرسل الاشارات والارشادات للأمة ولا ينسى جراحها.

كان زهوه في ميلاد مجلس التعاون العربي يجمع برقاً مثل عزته ويغضي حياءً بفرحته خشيةً عليه.

قدمه صدام لمنصة الخطاب في ذلك اليوم البغدادي المهيب المنقوع في العروبة، خشع القوم له خشوع التائبين وكأنهم تذكروا فجأة الفاحشة التي أُقترفت في (الرحاب) قبل إحدى وثلاثين سنة.

بكينا من مهابته ومن حزنه ومن شدة احتضان العراق. كنت بجوار عبدالله العتوم وأحمد الدباس يرحمه الله، وهمهم عبدالله أبا علي، دامعاً: لِمَ تبكي؟!

قلتُ له في يقين التابعين، القانتين لله سبحانه وتعالى، المؤمنين بآل هاشم حتى قيام الساعة: ألم تر كيف (عشّق) الحسين الكوفية الحمراء هدباً من تحت العقال، ودلى جدائلها معقوفةً صوب ذلك النور (وجهه)؟!

وربما أنني أكملت: كأنه الآن يسامح العراقيين بدم الهواشم.

هذا لبس الفرح الهاشمي للكوفية والعقال في احتفالات بغداد ما قبل مجزرة الرحاب البشعة عام 1958، وهل هنالك مجزرة غير بشعة؟ بعد واحد و ثلاثين سنة عاد لهم الحفيد السِّبط عبر دروب الحب والتسامح والتسامي عن الثارات، فاستقبلوه بالقلب و بالدمع.

كيف يفتدى الدم بالحب؟ هذا هو أول حروف الأردنية..

لقد اصطبغ ذلك الشماغ الهاشمي بحمرة من وجه الفرح. كم كان ورداً ومتورداً وجه الحسين في الساحة. لست أدري كم منا بقي له ذاكرة ليسترجع تلك الطلة الهاشمية من جديد على باب بغداد العروبة.

مباشرةً من الساحة إلى قاعة التوقيع على ميثاق المجلس توجه الأربعة..

الحسين،،

يرحمه الله الذي ذهب إلى جوار ربه في جنازة القرن، حين أحال الأردن في مماته النبيل والرزين (مهرجاناً وبساتين حياة، وخنجراً من حرير تركه لوريثه وديعةً يلمع في وجه الغزاة).

وصدام،،

كان مماته مهانة أمةٍ في يوم عيد الضحية، افتداها واقفاً، ولكن كما قال عباس تشاتشان، العراقي الحائر، أنه بفروسيته قد ارتقى بالمشنقة لتكون (مرجوحة مرجلة). واقفاً كان، شجاعاً ظلّ، وغادر يرحمه الله.

ومبارك،،

حين أثقلت المحنة قوامه انتهى إلى المحاكمة ممدداً، نائماً، مغمض العينين، تاركاً بهيئته حيرة جديدة لأهل المحروسة، فمنهم من قال إن مبارك يستهزئ بنا حتى وهو يحاكم!؟ ومنهم من رثاه وقال: لا يستحق!

وعلي عبدالله صالح..

أحرقوا وجهه بالنار حتى يدرك حتمية التنازل، فكان تنازله نصف قرار، لأن معركته كانت نصف هزيمة وظلت عيناه ترى.

أربعتهم توجهوا للقاعة..

وبطريقة صدام المليئة بالزهاء وبخفة ظل لم أكن قد استكنهتها بعد، طلب من الرئيس مبارك مداعباً أن يستخدم الأربعة ذات القلم في التوقيع، وأكمل: حتى يكون هالقلم شاهد على اللي (يبوق) توقيعه!

ولم ينتبه أحدٌ أن صدام كان يقرأ الغيب القادم حين اختلف مبارك معهم الثلاثة فيما بعد في محنة (الرواح العراقية إلى الكويت في آب 1990).

ليست أمريكا هي بلد الفرص الكبرى لأنها كبيرة ومن الطبيعي أن تعطي فرصاً كبرى، لكن الأردن البلد المحدود في كل شيء هو من يمنح الفرص الكبرى. وبهذا المعنى كنت أقف من خلف مليكي مع نفر من الأردنيين هناك في القاعة؛ ذلك النفر الذي فُتِح له الباب ليتفيأ بحكمة الملوك بدون تمييز أو محاباة.

كان الحسين للتو أشعل سيجارته عقب توقيعه بذات قلم أبو عدي في اللحظة التي اتجه فيها الرئيس صدام حيث كان يقف الحسين أمامنا.

وقبل أن أذكر ما سأورده، أقول أن ثلاث لحظات عشتها مع ذلك المليك منذ كنت طفلاً عام 1963 حتى أناخ القلب في محراب الشيب. و سأذكر لحظتين ما دمت حياً له و سأغض عن الثالثة حياءً لأنها تخص وسمه لي كاتباً له.

فقد عرفت الحسين طفلاً عام 1963 قبل اصداره العفو الملكي السامي بحق أعمامي قادة الجيش والطبيب، وعادوا من السجون والمنافي ليبدأوا مشوار الحياة في ظل الدولة الأردنية من جديد.

واللحظة الثانية هي لحظة ما سأرويه لاحقاً في بغداد.

وفي اللحظتين ، أُشهد الله على ما أقول، لم أرَ فيه – طفلا وختياراً كنت، إلا ما رأى فيه سماحة الشيخ الثوري أسعد بيوض التميمي، أبو نادر يرحمه الله، ذلك الشيخ الاسلامي المعارض للحكم الأردني على المدى. وأرجو من الأردنيين الذين حضروا ذلك القول و سواه أن يستعيدوه الآن، ذلك أننا أحوج ما نكون إلى أحسن الكلم، كي نوازن بها قبح ظروفنا واهتراء بعض حروفنا.

يوماً ما جاء الشيخ أسعد للقاء (مناصحة) مع الحسين في بسمان العامر، إبان سنوات انقسام الأمة حول النفط وأمريكا ومعاهدات العرب مع يهود.

وامتد اللقاء.

وحين غادر أبو نادر سأله مندوب وكالة الأنباء الأردنية- و هو حي يرزق على أي حال ويستطيع أن (يقولها)، لأنه لا خير فيه إن لم يقلها- "كيف كان اللقاء مع سيدنا يا شيخنا؟".

أجاب الشيخ الوقور يرحمه الله بمسؤولية: لقد التمست من ربي سبحانه قبل الدخول إليه أن أنصحه بالحق، وتوجهت إلى الله مستجيراً بدعاء (اللهم أنزع هيبته من قلبي لأقول له الحق). وأكمل الشيخ الوقور:

"خرجت بعد أن تيقنت أن هذا الملك هو حقاً حفيد المصطفى صلى الله عليه وسلم بعفة لسانه وتسامحه وحيائه وتفانيه في خدمة أمته".

أعود للحظة الأولى،،

كانت هناك في سلفيت مدينة في مغاريب نابلس حين كانت المملكة الأردنية الهاشمية ثلاث ضفاف: الشرقية والغربية والثالثة، أهمها، كنا (ملاذ العرب ودعاة الصلح بينهم).

قبل أن نخذل بعضنا بعضاً كنا أمةً في وطن، كنا ملاذ أمةٍ في وطنٍ بمعنى أدق.

عام 1963 هفهفت طائرته من فوق رؤوسنا وكانت زيارة (الحسين) إلى هناك في (سلفيت) إلى عشيرتين: آل الزير في (سلفيت) وكان أغلبهم شيوعيين، وآل سلامة في (بديا) وكانوا في معظمهم بعثيين و قوميين.

ربما أنه عودة الله المحادين متعه الله بالصحة وطول العمر، الذي كان مسؤولاً أول في إدارة تلك المنطقة حين شرفنا الحسين، ولهذا أنا بالدم وبالحليب رضعت حب الجنوب لأن أبناء الجنوب فاضوا على وظائفهم الادارية في تلك الأيام رقة وحباً، شأنهم دائماً.

كان كل سادة عشيرتي محكومين بالاعدام، عمي الكبير صالح (الشرع) كان ينتظر تنفيذ حكم الاعدام ضيفاً عزيزاً في القاهرة على جمال عبدالناصر. أيامها كان صدام حسين الفتى البعثي اللاجئ إلى مصر يحظى في منزل عمي أبو كمال مثل رعايته لأبنائه كمال ووليد وما بينهما.

وعمي صادق (الشرع) رئيس هيئة الأركان يرتدي البدلة الحمراء في سجن المحطة بانتظار التنفيذ.

وعمي الدكتور رفعت عودةأول من زرع القرنية في الأردن وأحضر علم طب العيون منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي من أعرق الجامعات الأوروبية، وكان هو الآخر قد احمرت بدلته في المحطة.

حين هطل الحسين علينا كالمطر، في برْد سلفيت التي كانت تكنّى موسكو الصغرى لكثرة (شيوعييها) وبديا كانت لكثرة (بعثييها) ولهذا كانت سلفيت دوماً أشد برداً لأنها تحب التداني من موسكو في كل شيء حتى الطقس.

كان ،،

محامي الأعمام وهو معالي الأستاذ وليد صلاح الذي طلب من عشيرتنا تواقيع التماسات العفو من كل أهل المنطقة لترفع للحسين في الزيارة. ولم يكتف المحامي النبيل بذلك بل وضع خطبة التماس كتبها هو بنفسه وأسند لأحد شجعان العشيرة مهمة المغامرة لإلقائها بين يدي الحسين. وتضمنت الخطبة إذ ذاك نقداً خفياً لبعض إجراءات أطر الدولة و توضيح لبعض ملابسات في القضية وقعت. وكذلك تضمنت التماساً بالعفو.

ولقد حققت جهود العشرات من الناس داخل الدولة من المتعاطفين وخارجها أهداف تلك الخطبة وتمكن أحد شجعان عشيرتنا، عبدالرحيم سلامة-عمي يرحمه الله، المثول بين يدي الحسين وألقى خطبته تلك.

أمر الحسين إخلاء الدرب والمنصة لذلك المستجير وأذّن له بالقول.

أتحدث أنا أيها الأهل الأحبة عن قصةٍ وقعت في ستينيات القرن الماضي، كان العالم العربي يزغرد للمشانق وللسحل في الشوارع وللقتل الجماعي ويظن الحكام في العالم العربي أنهم قاب قوسين أو أدنى من الحرية والتقدم. وحده كان الحسين ينصت للمستجير ويراجع المواقف ويخلي الدرب لمن ينشد الوصول إلى الحق والعدل.

كان يصنع وطناً يملؤه التسامح والحرية.

ألقيت الخطبة احتراماً وولاءً من العشيرة للأردنية الهوية وللهاشمية السلالة و للحسين الحاكم العادل و للعفو التماساً. خطفها الحسين وأودعها كأسراره الكثيرات في جيبه وبطريقته المعهودة وعد بأن الخير قادم إن شاء الله.

أيام كانت تفصلنا فقط عن الرقص والغناء واطلاق المشاعل فرحاً بعودة الأعمام. أستنتنج وأقول كان رفعت عودة في آخر أيامه رئيساً للجنة الشعبية في دعم العراق في حربها الضروس ضد إيران وحتى آخر يومٍ في حياته ظل داعماً للرئيس الراحل صدام حسين ولعروبة العراق.

وعاد عمي أبو كمال صالح الشرع ليتولى وزارة الداخلية والأوقاف إبان حكومة الانقاذ العسكرية في أحداث أيلول سنة سبعين. وتولى العم أبو زياد صادق الشرع ما لا يخطرعلى بال أحد من وظائف الدولة، واختتمها بوزارتي التموين والخارجية فيما بعد.

وكل عائلة في الأردن لها ذات القصة أو ما يشبهها، لأدلل على أن روح الأردنية هي روح الحب والتسامي والتسامح ولا يحدث ذلك إلا في الأردن نموذجاً نفسياً عربياً بنسيج الوحدة.

قلت كل ما قلت لأستذكر أيضاً تلك الومضة في عينيّ الحسين، حين وعدت عيناه لحظة انتهاء خطبة الالتماس بالعفو. كان وعده نذراً يوفي وعوده، نذر التسامح الذي علمنا نحن الأردنيين المؤمنين به كيف نسمو على جراحنا وأن نترك الباب مفتوحاً للآخر كي يؤوب إلى رشده بطريقة مشرفة كريمة لأن الأردنيين لديهم قصص مماثلة لما ذكرت، و ما اختياري لها محض عائلية إلا مسعى مني لحث و تشجيع كل أردني وأردنية لاستذكار ما يؤجج فينا الرحمة و العض على الجراح لأننا أحوج ما نكون اليوم فيه لإفشاء ثقافة التسامح والتشبث بقوة الأخلاق لا الترويج لأخلاق القوة، لأننا نحتاج إلى تكريس ثقافة تشكل منعةً لنا وتساعدنا على الاعتراض على ما أسماه الفلاسفة الألمان (ذهنية العصر المهيمنة) وهذا العصر قد ملأته ذهنية الاحتجاج العاصف وإقصاء الآخر والذبح على الهوية وتعميق روح المذهبيات والأقلمة وطأفنة المجتمعات.

هذا ما أحب أن ألخصه في لحظة العبرة الأولى منذ طفولتي.

أما اللحظة الثانية في بغداد، وفي شباط 1989.

تطلّع الحسين لصدام، وكنا من خلفه رجاله بعد أن ربانا أطفالاً على هاتيك الأخلاق، بعطفِ الأبِ على ابنه الراشد الفارس صدام حسين.. تطلّع الحسين إليه، ماداً نظره، مباهياً الدنيا به.

قال الحسين لصدام ونحن نصيخ السمع بمهابة التابع رغم حرصه رحمه الله أن يسمعنا ما أراد قوله: يا أبو عدي، الله يرضى عليك، اسمعني، ها قد أكرمنا الله سبحانه بانتهاء تلك الحرب البغيضة المدمرة (وكان يشير إلى انتهاء الحرب العراقية الايرانية قبل قرابة العام).. وأكمل يرحمه الله: "والآن ونحن نتجه إلى البناء والتطلع لتحقيق مصلحة الأمة، أقترح عليك أن تبدأ ديمقراطية هنا بالتدريج للأهل في العراق تتيح للناس من خلالها يا أبو عدي التعبير والمشاركة. وإذا ترى، نرتب اجتماع مع بعض الإخوة. (وذكر يرحمه الله الخوئي ود.علاوي وطالباني والحكيم والصدر) ونحقق مصالحة تعم فوائدها على الجميع إن شاء الله".

كان إخلاص سيدنا لإجراء مصالحة في العراق حد التوسل كي تتحقق. ورد أبو عدي يرحمه الله: "أبو عبدالله، تحـچي (باللفظ العراقي) عن الديمقراطية هنانا بالعراق؟".

فأجابه سيدنا بملاعبة: "اه هنانا!" وابتسم.. رد صدام:" ما راح يصير ديمقراطية هنانا في العراق..صعبة أبو عبدالله".

انكسر حماس سيدنا وقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله".

لم يأن الأوان بعد لدراسة التجربة العراقية بعد في الصورتين، (البعثية) وتجربة (الديمقراطية الأمريكية) في العراق؛ لكن المتفق عليه فيما يبدو أن التجربتين، فيهما خطايا، مست العراق دون قدرة أحد أن ينحاز في المطلق لأي منهما. لكن ثمة حقائق، و من دون إطلاق غرائزنا في التحليل، لا بد من استيعابها قبل أن ألج إلى صلب قضية جنون حراس السفارة العراقية في عمّان وضرورة التروي والرد بالعقل الأردني الذي يستند إلى كل ما ذكرت تجاه بغداد.

لست معنياً أيها الأحبة بالجنون العراقي ولا بالضياع الليبي ولا بالفوضى المصرية العارمة ولا بالتدمير الذاتي في سوريا، لكني معني هنا مشاركتكم الرأي لمحاولة تخطي ما وقع من حمق في المركز الثقافي الملكي، فأقول: لأننا لسنا مثلهم وحتى لا نصير مثلهم (ولا أقصد بهذا المعنى العراق الشقيق والأهل منهم، بل الذين أخطأوا منهم ويخطئون) وحتى لا يدركنا ما أدركوه من مصاعب ألتمس منكم العض على الجرح الأردني والتمسك بالأردنية العذبة.

الأردنية ،،

ليست جغرافيا وحسب..الأردنية خلق القبائل التي تحمي الذي يلوذ بها ولو كان قاتلاً، وذلك سر قوتنا.

الأردنية ،،
سلوك زعل كنيعان الفايز رحمه الله، ذلك الكبير الذي ترك لنا وسماً على جباهنا حين أجار قاتل حفيده و لم يعرف أنه القاتل و حماه و نصره و طلب منه أن يشاركه دفن حفيده.

الأردنية ،،
ملاذ العرب بدون منة، قبل أن يصبح بعض كتابنا و مفكرينا صدى بنظرياتهم الجديدة لتأثرهم بدموية الجوار و فئويته.

الأردنية،،

دم إبراهيم هاشم وسليمان طوقان وافتداء هزاع لوطن وتحدي وصفي بدمه للعدا.

الأردنية،،

دم الشهيد الكبير على بوابات الأقصى الذي صنع الأردن ليس هلالاً مذهبياً بل الأردن، يجمع أهلّة الأمة كلها وضاءةً مثل سماحة عمامته البيضاء من غير سوء..هذا هو القمر الهاشمي الذي يفتح الباب للرحمة والرجعة والتوبة وصية وأمراً نحن له صادعين، موسيقى وطن تزف أمر الشهيد المؤسس عبدالله ونحن له مذعنون.

الأردنية،،

الأقصى والقيامة وبيت لحم ومادبا وعجلون وإربد والطفيلة و قلعة الكرك و حويطات العز و السلط الأبية، فإن نحن أطلقنا غرائزنا و صرنا مثلهم فما هي مزايانا؟ (وأقصد مثلهم الخطاءون من الإخوة العرب).

بعض عراقيين ضرب زياد النجداوي في عمّان لأنه هتف لصدام حسين. ومن قبل زياد، بعض عراقيين ذبحوا آل هاشم بدمٍ بارد وأعدموا صدام في يوم عيد وهجّروا طارق الهاشمي بحكم اعدامه دون محاكمة. ميزتنا أن لا نرد على بعض هؤلاء فلا نصير مثلهم.

الأردنية ،،

حالة فكرية صنعها العرب بإيمانهم كلهم متضامنين متشاركين ومجمعين على قيادة الهاشميين للرد على ذهنية العصر على مدار المائة سنة الفائتة، إذ كانت سمتها المد الثوري الشيوعي وكان نقيضها الوقوف في وجود المد الشيوعي،، وفي الحالتين كنا ضحايا.

وبقي لنا مائة سنة أخرى نضطر أن نتعايش فيها على حد شفرتين: المد الأصولي الديني المتطرف والرد على الأصولية الدينية بتطرف أشد. و في الحالين علينا أن نصمد كما صمدنا في المائة سنة الماضية ليظل أملٌ في الأمة أن الفرج قادم بالصبر وبالحكمة وبالتروي.

التطرف الديني بدأ مع الحروب الصليبية، أخذوا منا و أخذنا منهم، و كانت الأذية مشتركة وإن لم تتساوى في النتائج، على حد تعبير أمين معلوف.

وإن كنا نفاخر اليوم بتوصيل أمريكا قمة الديقراطية حين حل أوباما الأسمر لقيادة بيتها الأبيض لأول مرة، فإن الاسلام والعرب قد سبقوا الغرب إلى هذا السمو في التسامح. ارجعوا واقرأوا محاكمة التاريخي حين عقل بلال الأثيوبي الحبشي، وهو أسمر أيضاً، أعظم قائد عسكري عربي في التاريخ خالد بن الوليد المخزومي.. حين عقله بعمامته وحاكمه أمام جيشه في حمص بالقرب من بابّا عمرو. فقط اقرأوا المسافة بين تلك الحادثة المجيدة وبين حروب الردة في حمص اليوم. هذا الذي يلزمنا التسامح.

نحمد الله على نعمائه أن هيأ لنا من آل البيت حكاماً. لا يجوز لنا أن نشتم أحباب آل البيت، شيعة كانوا أم سنة، ونصفهم بصفات أضحت عملة دارجة في سوق النخاسة الفكرية. ثمة لغة ليست لنا وليست من تاريخنا. هؤلاء شيعة آل بيت رسول الله ونحن أولى بهم. ولا يجوز أن نشتم العراق، فالعراق ظهرنا وظهيرنا وإن أخطأ بعض العراقِ وأخطأ بعض سوريا وأخطأ بعض مصر، فذلك يدعونا إلى التمسك بالصواب أكثر وأن نكافح لتعميم منظومة أخلاقنا الوطنية وأن نروج لمعاني الصبر والحكمة وأن لا نطلق غرائزنا على سجاياها لأن أول الحرب كلام وأول السقوط شتائم.. (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ).

أمس بمحض المصادفة فرغت من قراءة كتاب خلخل الكثير من المفاهيم لدي بعنوان (الشاه وأنا) وهو يوثق لمذكرات وزير بلاط الشاه لسبع وعشرين سنة واسمه أسد الله علم،، اقرأوه أيها الأردنيون لتقفوا على أن الغطرسة والعلو والكبّر صفات (الشاه) على مدار ثمانمائة صفحة لتستنجوا أن أخلاق الهاشميين الذين وصمهم شاه إيران في إحدى مواقفه (بالضعف و المسكنة).. وكان يرى في أخلاق الحسين ضعفاً وكان يرى الملك جبروتاً وتحكماً وتسلطاً، ثم تذكروا كيف وأين مات الشاه وأين هو الحسين.

ومن إحدى الطرائف ما يقوله شاه إيران لزوجته فرح ديبا قبل إعادة تنصيب خوان كارلوس على عرش أسبانيا، ناصحاً العائلة البهلوية أن لا تكون مثل الحسين في الأردن الذي سيفقد عرشه قريباً بسبب تسامحه وترفعه ومسامحته لأعدائه.. و من بقي عرشه؟ و من مات عن عرشه بعيداً؟

التواضع والحلم هما ما يوجب أن نصرف الاهتمام إليهما. ذهنية العصر مستبدة وقاتلة وظالمة ودججت بالعنف.. حتى مصر المحروسة جعلت منها نزهة العنف اليومية قلقة و حائرة و خائفة. نحتاج إلى هدوء في انفعالاتنا حنى نبقى للأمة أملاً. نحتاج إلى اعانة سيدنا الملك عبدالله حتى نعطيه فرصة لحمايتنا، وأعني الكلمة بكامل المسؤولية (لحمايتنا).

وأول ما يحتاجه سيدنا الملك في هذه اللحظة هو تحويل نزهة العنف الأردنية كلما استجدت مناسبة لذلك إلى نزهة من هدوء للتفكير وإلى ترو وهدوء في المواقف.

إن من يرصد المطالب الشعبية في المملكة من بعيد يحس أحياناً بالرعب و الخوف وكأننا في ليبيا و ليس الأردن. ثمة سبع طلبات لإغلاق أبواب سفارات في أقل من سنة. ليس من الجائز هذا الاستمرار فيه.

وعلى المسؤولين المحليين أن ينتبهوا لدورهم في التدقيق و النظر في القضايا الحساسة و عدم السماح لها بأن تكون في مجتمعنا مادة للتوتير، فما لنا و ما للمقابر الجماعية!؟
أما أنت يا زياد..

فإن ما أوذيت به هو شرف لكل أردني وأردنية حين ننجح في أن نكون من الكاظمين الغيظ. شرفٌ لنا أن ضيوفنا يعتقدون أنهم قادرون على ضربنا في بيتنا و يطبقون المثل الشعبي عندنا ((مثل مجنون دشع على بلد)). و نحن يا زياد و إخوانك معك قادرون على أن نضربهم فوق ما ضربوا و أن نؤذيهم أضعاف ما آذوا،، حين ذاك نصير مثل المخطئين منهم.

أيها الأردنيون ردوا على الإساءة بالحب و لست بأكرم يا زياد من النبي العربي الهاشمي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال و هو يستعرض دمه المسفوح من أجداد أولئك الذي ضربوك في الطائف، لم يشتم و لم يغضب بل قال: (( إني لم أبعث لعاناً، ولكني بُعثت هادياً و رحمة))

بهذا الهدى وهذه الرحمة أدركت دعوة محمد الصين وأوروبا والأمريكتين.

إن أردنيتنا واجبها أن تبقى الاعتراض على جنون المرحلة والنقيض لاستدماء المرحلة.

وبعد،،

الاحترام لبشار سرحان الذي غنى قبلنا كلنا للأردنية هاتفاً:

"يا الأردنية..ربعك نشامى!"

والنشامى هم الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما..

وسلامٌ عليك يا زياد النجداوي.. وسلام عليك يا ختاتنة.. وسلام على أردن السكينة والخلق وبالحب الهاشمي نقول: فليخسأ الخاسئون!





  • 1 أسامة ملكاوي 26-05-2013 | 01:04 PM

    الأستاذ أحمد
    حكمة بالمضمون، ولغة رفيعه, أعطاك الله الصحة.

  • 2 أسامة ملكاوي 26-05-2013 | 01:04 PM

    الأستاذ أحمد
    حكمة بالمضمون، ولغة رفيعه, أعطاك الله الصحة.

  • 3 زيد صادق الشرع 26-05-2013 | 01:35 PM

    الى رقم 27 تماما هذا ما اردت قوله للكاتب سلامه و ان شاء الله ان نستطيع ازاله اللبس الوارد في ملاحظتك ان سنحت الظروف بنشر مذكرات الوالد رحمه الله وهي محفوظه لدي و من المفارقات ان الوالد كان في بغداد عام 58 عند وقوع انقلاب عبد الكريم قاسم و لولا عنايه الله كان قد استشهد مع ابراهيم هاشم اما بالنسبه للكاتب الاستاذ احمد سلامه تبقى معلوماته ناقصه و تعتمد على التحليل الذكي و قد تسنح له الفرصه الاطلاع على تقرير الخبير البلجيكي الذي استمع الى الوالد اثر توجيه الاتهام له

  • 4 م. حسين محادين 26-05-2013 | 05:47 PM

    كلمات أحوج ما نكون اليها تدعو الى الوحده والتسامح والفخر بأمتنا العربيه وأن نسمو فوق أي خلاف , ولانك سيدي الكاتب , عظيم بانسانيتك وبسمو أخلاقك وفي صدق قلمك وطهر فلسطين , قد كنت نعم الاختيار عند الحسين العظيم (طيب الله ثراه) لك منا جميعا كل المحبه والتقدير , وفقك الله لما فيه خير هذه الأمــه.

  • 5 بسام 26-05-2013 | 06:38 PM

    رائع جدآ

  • 6 بسام 26-05-2013 | 06:39 PM

    رائع جدآ

  • 7 الدكتور منذر الشرع 26-05-2013 | 06:51 PM

    لله درك أبا رأفت، اشتقنا لك كثيراً.

  • 8 ابو الحكم حفيد قارئ رساله الالتماس وسميه أيضاً 26-05-2013 | 08:47 PM

    صح لسانك عمي ابو رفت وطول عمرك كبير

  • 9 ابو سمير القرم 26-05-2013 | 09:29 PM

    طبعا اعط القوس باريها سلمت يا ابا رفعت وسلم قلمك والله معك فلا تبخل علينا بكتاباتك الرائعة التي افتقدناها كثيرا ومنذ زمن بعيد ، انك كبير وكبير انت حفظك الله ورعاك

  • 10 مخلد الشوبكي 26-05-2013 | 09:32 PM

    لقد ابدعت يا ابا رفعت كعادتك . سلمت يداك ولافض فوك .

  • 11 عايد المعاني 27-05-2013 | 12:06 AM

    حينما كتبت مقالتك الشهيرة ووصفك الحسين رحمه الله انك تقمصت ما بداخله كنت انا حينها فتى صغيرا ولم ادرك تماما ماذا قصد الراحل الكبير عليه رحمة الله .... الآن ادركت ذلك ... نحن بحاجة لثقافة التسامح ولسياسة الاحتواء .. وعتب مدينة معان عليك كبير لأنك ذكرت مناطق وشخوص وغفلت عما قدمته معان للاردن وللقضية وللعراق !!!هل سقطت سهوا ام ان " ثقافتك المعانية " لم تسعفك ؟؟؟؟؟ مقال اكثر من رائع جزاك الله خيرا .

  • 12 مواطن 27-05-2013 | 12:21 AM

    نتمنى عودتك كاتب موحدا لكل الأحباء والاشقاء في الاردن وفلسطين والعراق وسوريا وفقك الله يا بطل الكلمه الطيبه الصادقه العروبيه .

  • 13 نزيه السحيمات / الكرك 27-05-2013 | 02:16 AM

    أحنست قولاً ايها النشمي

  • 14 صايل القيسـي - مادبـا 27-05-2013 | 02:31 AM

    استاذنا الكبير أحمد سلامة.. سلمت يدك الطيبة وسلم قلمك الصادق النبيل.. واللهم احفظ الأردن وقيادتنا الهاشمية الشريفة

  • 15 مطلع 27-05-2013 | 04:21 AM

    نعتذر

  • 16 السردي 27-05-2013 | 04:44 AM

    شكرا يا حكيم

  • 17 منذر 27-05-2013 | 06:57 AM

    كلام جميل استاذ ولكن الى متى سينخدع الشارع بأكاذيبكم؟

  • 18 د.محمد مسلم حمود 27-05-2013 | 12:04 PM

    اذا أكرمت الكريم ملكته واذا أكرمت اللئيم تمرد.
    وهل كرامة الاردني دائما تكون ثمنا لجنون المرحلة/المراحل وتناقضاتها.

  • 19 ابو عبدالله الطفيله 28-05-2013 | 03:22 AM

    مشان الله انت وين بدنا انشوفك بدنا التواصل قول انت وين حنجيك انت رائع

  • 20 هشام 28-05-2013 | 04:34 PM

    لقد سطرت كلمات ومزجتها الحب والكره والصداقة والعداء ...فكونت كوكتيل تعبيري عن الهاشميين ..صورتهم بما يليق بهم ،،،لم نسمع او نقرأ او نشاهد ان الهاشميون غضبوا لانفسهم ...لينتقموا ...تساميهم ومتساحهم والعفو عند المقدره شميتهم ....صح لسانك يا مبدع ...


تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :