facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




منحني اللـهُ أربعةَ آباء وأربعَ أمهات !


محمد الداودية
10-03-2018 01:52 AM

سيرة روائية 3
أنا ابن السراب والهجير والغبار والمدى البني الصحراوي الاجرد.
أبصرت النور طفلا منفردا في حالة حصار، في الإجفور - Haifa 4- الواقعة على خط نفط كركوك- حيفا، في قلب البادية الأردنية، التي تقع بين ثلاث دول هي السعودية والعراق وسوريا. كان للمفارق المفصلية التي تقع بين السراب والضباب والحياة واليباب، دور حاسم في حياتي.
حدثتني والدتي فقالت إنها أصيبت بحمّى النِّفاس عندما وضعتني، ولأنها شارفت على الهلاك فقد حملتها سيارة شركة نفط العراق، التي يعمل فيها الوالد، مسؤولا عن مزارع الشركة، من الإجفور إلى المستشفى الطلياني العريق في عمان حيث مكثَت فيه نحو ثلاثة أسابيع بين الحياة والموت. قالت لي انها اوشكت على الجنون خلالها، بسبب حرمانها من رؤية ابنها البكر وضمه وتقبيله ومناغاته وارضاعه.
كانت ترافقها جدتي الصارمة الحاسمة فضية حرارة ام إبراهيم التي رفضت أن تحملاني معهما إلى عمان. وعندما أصرت والدتي على اصطحابي، هددتها جدتي، ذات الشخصية القيادية الطاغية، قائلة:
إذا جبتي العيّل معنا سأقذفه من نافذة السيارة.
وأضافت مستنكرة متسائلة:
من اين اخلق له مرضعة ترضعه في عمان؟
ارتعبت والدتي وتزعزعت وانهارت. توسلت دون جدوى. حاولت والدتي بالبكاء والنحيب ان تستدر عطف جدتي وان تثنيها عن قرارها المرعب القاسي. لا ينفع أي سلاح مع جدتي فضية. هي لا تتخذ القرارات جزافا. ولا تتراجع لان التراجع ضعف، ليس من صفات جدتي ضئيلة الحجم والوزن، هائلة التأثير.
أنهت والدتي النقاش خاسرة مكسورة كعادة كل من يجادل جدتي.
بحثت خالاتي حليمة وهدية وسامية في الاجفور عن أمهات أنجبن حديثا، لإرضاعي.
قالت لي خالتي المفرطة الطيبة والهدوء والرقة، هدية:
كنت نهما يا محمد، كنت ترضع عن عدة أولاد.
وأضافت:
كانت المرضعات يصرخن، فقد أدميت حلماتهن من شدة شراهتك. وكنا ثلاثتنا نحملك وننتقل بك من بيت مرضعة الى بيت أخرى وايدينا تتخلع من وزنك الذي يماثل وزن عدة أطفال. ولم يكن بالإمكان الحصول على سيارة. وبعوضنا انك حين تشبع، كنت تغرق في نوبات ضحك وحركة وفرح يبهج المرضعات وذويهن.
وجدت خالاتي الثلاث، ثلاث أمهات وضعن حديثا، الأولى هي الحويطية سالمة مسلّم العواسا النجادات، أم العقباوي عيد غنام الفيومي، التي شاركتُ طفلَها عيداً حليبه، فوهبني الله أُمّا رؤوما وأخا غاليا، ما أزال ارتبط بأزهى الروابط مع أسرته ومع نجله النشمي الكريم فارس، الذي أزوره كلما زرت العقبة.
والأم الثانية، بدوية أيضا من بدو الشمال وتحديدا من أهل الجبل «إجْبِلية» هذا كل ما كنت اعرفه عنها. ولم أتمكن من العثور عليها رغم محاولاتي المضنية طيلة عقود من الزمن، الى ان عرفتها بصدفة فارقة تحصل مرة كل مليون عام.
لبّيت مساء يوم 2016.9.14 دعوة الصديق النائب السابق خالد البريك المساعيد، وتحدثت في احتفالية افتتاح مقره الإنتخابي الذي أمته جموع من المؤيدين في روضة بسمة في البادية الشمالية الشرقية.
لم يكن مقررا ان أشارك في احتفالية خالد البريك، لظروف تتعلق بوجوب المشاركة في دفن والدة احد الأصدقاء. ولما تم تأجيل الدفن لليوم التالي ريثما يحضر ابن الفقيدة وشقيقها من الخارج، سنحت فرصة المشاركة الخرافية التي اتاحت لي تحقيق هدف كان مستحيل المنال.
قلت للجمهور الغفير الذي حضر الاحتفالية انني ولدت بينهم في أقصى البادية الشمالية، في بلدة الإجفور (H.4) التي تقع على الحدود العراقية الأردنية وتسمى الرويشد اليوم- وذكرت انني رضعت من سيدة من قبيلة الحويطات توفاها الله. وقلت ان سيدة منكم «إجبلية» من قبيلة المساعيد ارضعتني، وقد حاولت أن اجدها دون جدوى. كما ارضعتني سيدة كردية لعلها هي التي ارضعتني قسطا من العناد و»الدقارة».
عندما نزلت من على منصة الخطابة، تقدم نحوي رجل اسمر ممتلئ، في العقد السادس من عمره، سلّم عليّ بحرارة هائلة وسألني بلهفة:
أنت محمد ابن جظة؟
قلت مستغربا سؤاله: نعم انا والله ابنها، يرحمها الله.
قال: وجدك هو مزعل مشري الخوالدة أبو ابراهيم؟
ماشيته وانا مستمر في استغرابي: أي والله.جدي مزعل.
وسأل: ولك ثلاثة اخوال هم إبراهيم ومشري وعبد الحليم!!
خالطني حذر وقلق وندم. فالبدوي يسأل أسئلة تفصيلية من هذا النوع ويستوثق من الشخص الذي يقابله قبل ان يمد يده الى مسدسه او بندقيته لأخذ الثار!
تفرست في الرجل فلم ألاحظ ان معه مسدسا او بندقية. ذلك لا يكفي ولا يحول. استذكرت، فلم أتذكر ان في عنقي دما او ثأرا او «طلابة». كان الرجل يفيض ودا. ورغم ذلك فقد كانت يدي تتحسس اخمص مسدسي المحشو الصلب البارد!!
سألته: هل انت نسّابٌ يا اخي. واجبت: نعم هي والدتي وهو جدي وهم اخوالي.
قال وهو يوشك ان يبكي: انا اخوك بالرضاعة. انا اخوك علي رشيد الشبار ابو مجلّي.
ثم تقدم رجل آخر وقال: انا زوج اختك عليا بالرضاعة. انا محمود سليمان الشبار ابو محمد، شيخ عشيرة الشبار المساعيد.
الحمد لله. ثم الحمد لله. كانت فرحتي لا تضاهى..
لاحقا زرت اهلي واخوالي آل الشبار المساعيد كرام الناس في الضليل.
يا للمقادير. انتهى بحثي عن والدتيّ الجبلية التي ارضعتني قبل 69 عاما. احمد الله انني لبيت دعوة صديقي خالد البريك للخطابة في مهرجانه.
اما والدتي بالرضاعة الحويطية سالمة مسلم العواسا النجادات (1903-1990) أم عيد، فقد وجدتها في العقبة وزرتها وحظيت بتقبيل رأسها ويديها، وقد توفاها الله، لروحها الرحمة والرضوان.
أما الأم الثالثة بالرضاعة فهي عراقية من كركوك، كانت زوجة احد مراقبي الخط الناقل للنفط من كركوك إلى حيفا وقد انقطعت أخبارها حين انتقل زوجها للعمل في محطة ال «H3».
كانت والدتي بين الحياة والموت في المستشفى الطلياني في عمان. وكان قلبها كله هناك في الاجفور، يفتك بها القلق على بكرِها الذي لم تعرف بعد، ماذا اسماه أبوه.
بعد اربع سنوات، حملت نفسُ سيارة الإسعاف والدي حسن، الى نفس المستشفى الطلياني في عمان ومعه جدي مزعل.
قال لي جدي:
ظل قلبه طيلة الوقت هناك في الإجفور. يستبد به القلق على مصيرك.
وقال لي جدي الذي لازمه في المستشفى كل الوقت وكان صديقه:
كان ابوك متعلقا بك بشدة، يحملك بالساعات ويناغيك ويحيطك برعاية تامة.
وقال جدي:
في المستشفى كان ابوك يحاول ان يصمد من اجلك. وكان ينشج ويجوح كذئب في شَرَك، قلقا على مصيرك. لم يكن مصيره هو ما يقلقه.
لم يتمكنوا في المستشفى الطلياني من إنقاذه.
لكنهم تمكنوا من انقاذ والدتي.
توفي والدي وهو في الثالثة والثلاثين، كان فتى فارعا اسمر وسيما نحيلا، وكان جوادا كريما يغيث الملهوف ويلبي حاجات من يقصده ويطرق بابه، كان ميسورا بفضل عمله في شركة نفط العراق
IRAQ PETROLEUM COMPANY (I.P.C) في بلدة الـ H.4
قالت لي جدتي فضية:
كانت امك ترفع وجهها الى السماء كل ليلة وهي تكفكف دموعها على وفاة أبيك وتقول:
يا رب لمن تركت هذا الطفل اليتيم.
يا رب خلّ عينك على ابني.
يا رب لا تكسر خاطره ابدا.
يا رب يسّر أمره.
يا رب انت ابوه ومرشده وهاديه.
وقالت جدتي فضية :
كانت امك تسحب عليك الغطاء مساء كل ليلة، تهدهدك وتقبلك وهي تغني لك بصوتها الرخيم الحزين:
«يا حسرتي عالطير قصّوا جناحه،
طيرٍ بلا جنحان كيف يطير».
كنت بالفعل طيرا مقصوص الجناحين.
وقالت لي جدتي فضية:
ان أمك كانت تحذرنا مِنْ أنَّ مَنْ يؤذيك سيعاقبه الله عقابا شديدا.
وقال لي جدي مزعل:
ان الله عوّضَك بدل الأب اربعة آباء، عمّك جعفر وأمك وجدتك وانا. كما ان الله منحك اربع أمهات.
وقالت لي خالتي هدية:
كانت امك تتصدى بشراسة وبعنف لأي شخص يُغْضِبُك.
كبرت، ورغم انني كنت شقيا ومشكلجيا، الا ان أحدا لم يقل لي الله يلعنك، ولا اذكر ان أحدا ضربني كفا او عصا.
ولكنني لم انادي أحدا بكلمة ابي.
لم انطق هذه الكلمة في كل حياتي.
ظلت هذه الكلمة معي كل عمري حبيسة صدري الى اليوم، توجعني كثيرا كثيرا.
كتبت كلمة «ابي» هنا على الورق وما نطقتها.
كنت اشعر بدعوات والدتي وبركاتها تحفّني وتطوّقني. وكانت طريق العثار والزلل والخطر تنسحب من تحت اقدامي في اللحظات الأخيرة، لتحل محلها طرق التوفيق الآمنة.
لقد استجاب الله لدعاء أمي طيلة هذا العمر.
في «كامب» شركة نفط العراق الآي. بي. سي في الإجفور- الرويشد على الحدود الأردنية العراقية حيث ولدت، كانت الجنة والنعيم ، فقد كان ابي يعمل رئيسا للدائرة الزراعية في الشركة مشرفا على بساتينها الفسيحة المروية التي تزود موظفي الشركة مجانا بالخضار والفواكه والبيض والحليب والارانب والدجاج.
- يتبع السبت القادم

الدستور





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :